تقاس قوة الدول باقتصادها وثقافتها وعلمها وتقدمها التكنولوجي .. لا أغفل موضوع التسليح لكن هناك دولا تحتل جيوشها مرتبة متأخرة ولكنها تصنف كأمم متقدمة مثل فنلندا والدنمارك وماليزيا .. الهند قبل حصولها علي السلاح النووي امتلكت قوة ثقافية ناعمة في السينما ونافست “بوليوود” هوليوود الأمريكية .. مصر تباهت بالفن السابع حتي وقت قريب ويكفي أن الأفلام المصرية جعلت لهجتنا مفهومة للوطن العربي كله بعكس الاشقاء .. من أهم خصائص الثقافة عدم التقيد بالنظام الحاكم في توجهاته .. فترة ناصر الشمولية شهدت روائع وأيقونات أدبية وسينمائية .. مسرحية السلطان الحائر لتوفيق الحكيم ورواية وفيلم شيء من الخوف لثروت أباظة بالإضافة إلي علامات نجيب محفوظ علي جدارية السينما العربية كـ “ميرامار وثرثرة فوق النيل والطريق واللص والكلاب” ولا أنسي فتحي غانم ورائعته “الرجل الذي فقد ظله”..
مناسبة هذا الكلام المسلسل الكويتي “أم هارون” الذي تلعب بطولته حياة الفهد وتعرضه شاشة الـ”إم بي سي”.. المسلسل من وجهة نظري غير المتخصصة استنساخ لفيلم “قائمة شندلر” الذي أخرجه الامريكي ستيفن سبيليرج في 1993 مجسدًا معاناة اليهود في ألمانيا والتمييز الذي قاسوه إلي أن أُعدِموا في أفران الغاز .. تكاد تلمح التطابق في الروايتين لأنهما يتحدثان عن مظالم اليهود في مجتمعات لا تقبلهم سواء في ألمانيا كما زعم الفيلم، أو في الخليج حيث تدور أحداث المسلسل ..
الفترة التي اختارها المخرج المصري – للأسف – محمد العدل هي ذروة الحركة الصهيونية والنكبة وتعرض يهود الخليج للعنصرية وإجبارهم علي الهجرة لإسرائيل حيث لاقوا تمييزا منهجيا باعتبارهم شرقيين بعد أن طردوا من “أوطانهم” مائة خط تحت كلمة أوطانهم .. إنها النغمة السائدة في إسرائيل الآن وهي الحصول علي تعويضات لأسر وعائلات اليهود السفرديم الذين تركوا أوطانهم الأصلية “دول الخليج تحديدًا وربما مصر” .. لقد نجحت ضغوط تل أبيب في الحصول علي تعويضات من ألمانيا فهل تنجح مع العرب ..
الرؤية النقدية المحايدة للمسلسل تشير إلي أنه يمكن التعايش مع اليهود بعد التطبيع فقد عاشوا معنا قبل 1948 وتاجروا .. هي تمهيد “ناعم” للتطبيع كالذي دعت إليه جماعة كوبنهاجن بعد توقيع معادات أوسلو للسلام بين تل أبيب وفلسطين..
لكن رؤيتي أنا كمصري حارب إسرائيل ومازال يعتبرها العدو الأكثر خطرا فهي تحاول رسم صورة مختلفة لليهود الشرقيين الذين يعانون التفرقة في إسرائيل من الاشكيناز الغربييويرسم صورة مغايرة للدولة العبرية التي حمتهم حين هجرتهم.. المسلسل يردد المفهوم الخاطئ لحكومة الليكود بأن دولتهم أنقذت اليهود السفرديم من الاحتقار العربي..
الخطأ التاريخي البشع في المسلسل أنه ذكر منذ الحلقة ألاولي إقامة دولة الكيان الصهيوني علي أرض إسرائيل .. إذن لم تكن هناك فلسطين .!!!. هذا مخرج جاهل ومحرف للتاريخ .. الانتداب البريطاني كان علي أرض فلسطين .. ووعد بلفور 1917 نص علي إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين .. هل المقصود أن ننسي كعرب اسم فلسطين! الكارثة الكبري للمسلسل ليست كل ما سبق ولكن فيما ذكره الصحفي الإسرائيلي ايدي كوهين بأن تمنح الكويت الجالية اليهودية التي اضطرت للهجرة غير العادلة لأراضيها جنسيتها وفقًا للدستور الكويتي الذي ينص علي منح جنسية البلاد لأي شخص “دون تحديد الديانة” كان يعيش فيها قبل 1920 !!!!.. “
في الوقت ذاته دافع أفيخاي درعي المتحدث باسم جيش اسرائيل عن المسلسل وأشاد ببطلته حياة الفهد التي تواجه اتهامات المؤامرة وهاجم الجمهور العربي الذي يشاهد البرامج التليفزيونية العنصرية المعادية للسامية والتي تعتبر كلمة التطبيع خيانة..
عند هذا الحد كان لابد أن أسترجع في ذهني مسلسل محمد صبحي الذي عرض في رمضان 2002 بعنوان فارس بلا جواد .. وعلي عكس “أم هارون” فإن بطل الدراما المصرية حافظ نجيب شخص حقيقي عاصر تلك المرحلة وقاوم الاحتلال وكان صديقًا لمصطفي كامل ومحمد فريد .. وحضرت ملك حافظ نجيب ابنته تصوير أول 5 حلقات وأبدت إعجابها الشديد به .. المقدمة الأصلية للمسلسل أشارت إلي أنه مستمد من كتاب “بروتوكولات حكماء صهيون” .. اتهمته إسرائيل بمعاداة السامية .. واستدعت الخارجية الأمريكية السفير المصري بواشنطن لإبلاغه باستياء الولايات المتحدة من المنحني العدائي لليهود .. الضغط علي مبارك كان قويًا من تل أبيب وجورج بوش الابن مطالبين بوقف المسلسل لمعاداته للسامية ..
خرج صفوت الشريف وزير الإعلام وقتها ليعلن في مؤتمر صحفي أنه ليس هناك مشهدًا واحدًا يعتبر معاديًا للسامية .. كانت إسرائيل قد انسحبت من جنوب لبنان عام 2000 .. لكن اعتبارا من فبراير 2002 بدأت صواريخ القسام من غزة تنهال علي إسرائيل محدثة أضرارًا طفيفة، لكن الصهاينة كانوا يردون بعنف ووحشية علي الفلسطينيين .. بعثوا بخطاب احتجاج لمصر متهمين المسلسل بأنه يساند “الإرهاب” الفلسطيني عليهم .. ورد وزير الخارجية الراحل أحمد ماهر قائلاً أنتم الإرهابيون والصواريخ هي مجرد مقاومة مشروعة ضد من يحتل الأرض .. زاد الضغط علي مصر وطلب مبارك من عمر سليمان مدير المخابرات مقابلة محمد صبحي وإقناعه بتخفيف بعض الجمل .. وتوصلا لاتفاق يوضع في مقدمة العمل بعدم ضرورة ارتباط جميع أحداثه بوقائع حقيقية وحذف “مستمد من بروتوكولات صهيون” .. تم حذف 40 مشهدًا .. لكن مكتب مبارك اتصل بصفوت الشريف بعدها طالبا منه عرض المسلسل كاملاً بدون أي حذف في غير أوقات الذروة .. نعم كنا ملوكًا فاتحين في الدراما وجميع أفرع القوة الناعمة .. وهناك سر لا يعلمه كثيرون وهو أن فاروق حسني وزير الثقافة الاسبق خسر منصب مدير عام اليونسكو لسببين مسلسل فارس بلا جواد .. وتصريحه بأنه إذا وجد كتابا إسرائيليا في معرض القاهرة للكتاب سيحرقه .. وتلك الأيام نداولها بين الناس..