ارتبطت مصر واليونان بعلاقة تاريخية منذ القدم .. فهيرودت المؤرخ الإغريقي أول من كتب أن مصر هبة النيل في القرن الخامس قبل الميلاد .. وأسس الإسكندر الأكبر بها المدينة والميناء التي تحمل اسمه للآن .. لكني كصحفي تعلقت بها أكثر من 54 بلدا آخر زرته .. لي أصدقاء كثيرون أولهم جورج كوتسومتس ابن الإسكندرية والذي وصل لدرجة سفير والراحل موسكوف مسئول الإعلام بالسفارة اليونانية بالقاهرة والذي صحبني أكثر من مرة مع شعراء وأدباء لحضور مهرجان كفافيس الشاعر اليوناني السكندري الذي كان يقام سنويا بسالونيك أو اثينا وفاز بجائزته العديد من المصريين مثل فاروق شوشه وأحمد عبدالمعطي حجازي وإبراهيم أبوسنه وحسن طلب وعفيفي مطر وغيرهم ..
ولا أنسي طبعا صديقي الحميم القبرصي اليوناني جورج باباكرياكو ابن طنطا وزميل الدراسة ومازلنا علي اتصال ونتلاقي سنويًا ….
لا توجد في حوض المتوسط دولتان علي هذا القدر من التشابه سوي مصر واليونان .. كلتاهما وقعت تحت الاحتلال العثماني .. قامت حركة تحرير يونانية قادها ثوار بين 1821 و 1832 طردت المحتل العثماني وأسست أول ملكية إلي أن أزالها انقلاب عسكري عام 1967 وملكة اسبانيا صوفيا زوجة خوان كاروس هي شقيقة الملك المعزول قسطنطين (80 عاما) الذي عاش في مصر 6 أعوام أثناء احتلال ألمانيا لبلاده ..
ثم تأسست الجمهورية 1975 .. كانت تلك المعلومات متاحة في جريدة أسبوعية تصدر بالإسكندرية اسمها اليوناني المتمصر بالعربية واليونانية برئاسة تحرير إبراهيم الجوهري المصري وانكلوس كاسيكونيس وتوقفت نهاية السبعينيات ..
اليونانيون مثلنا دائما ينتقدون الحكومة ويتظاهرون بمناسبة أو بدون.. هي التي اخترعت الديموقراطية والتسمية هيلينية .. برلمانها 300 عضو ورئيس الوزراء لابد أن يحصل علي الأغلبية أي 151 عضوًا وتناوب علي حكمها في السنوات الأخيرة الباسوك (الاشتراكيون) والديموقراطية الجديدة .. لم يكن بها موارد طبيعية إلي أن تم اكتشاف الغاز مؤخرًا ودخلت في تحالف مع مصر ولبنان وفلسطين وإسرائيل للوقوف في وجه الأطماع التركية..
لم تكن الأوضاع الاقتصادية في اليونان جيدة مقارنة بباقي دول أوروبا .. لذا لم تكن ضمن السبع دول التي وقعت اتفاقية السوق المشتركة عام 1958 قبل أن تتحول للاتحاد الأوروبي .. سبقتها ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وبلجيكا ولوكسمبرج وهولندا والدنمارك وهي الدول السبع المؤسسة لاعلان 1958 ثم تبعهم إنجلترا وأيرلندا 1973 .. وانضمت أثينا 1981 وبعدها اسبانيا والبرتغال… صادف اليونانيون مثلنا حظا عاثرًا في أبريل 2010 قبل أحداث يناير 2011 في مصر التي كادت تدفعنا للهاوية أما اليونان فقد أفلست تقريبا .. لجأوا إلي الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي لإقراضهما خاصة أن معدلات الفائدة علي السندات اليونانية ارتفعت جدا وذلك لخوف المستثمرين من عدم القدرة علي الوفاء بالديون مع عجز الموازنة وارتفاع ضخم في حجم الدين العام ..
اليونان هددها الخروج من منطقة اليورو الافتصادية، لكن ألمانيا وآخرون تقدموا للمساعدة في آخر لحظة .. طرحوا ثلاث خطط للإنقاذ الأولي من مايو 2010 إلي يونيو 2011 والثانية من فبراير 2012 والثالثة من أغسطس 2015 وكانت الشروط هي (1) عدم إقامة أي مشروع إلا بدراسة جدوي يعتمدها المكتب الفني للاتحاد الأوروبي (2) تطبيق خطة تقشف علي الإنفاق الحكومي والهيئات وتوجيه عائد السياحة (المصدر الأساسي للدخل آنذاك) لخفض فوائد الديون (3) تعيين مراقب محايد من المعارضة في البرلمان اليوناني ومعه خبير اكتواري من المقر الأوروبي في لوكسمبرج ..
لم يكن هناك مفر من القبول .. نفذوا الشروط والتوصيات ونجوا من الإفلاس وأعلنوا في عام 2018 أنهم ليسوا في حاجة لمزيد من القروض! لكن الأزمة علمتهم شيئا هاما وهو أن فوق كل ذي علم عليم .. من ثم فإنه عندما ضربت الكورونا إيطاليا المجاورة ، لم تكن قد ظهرت أي حالة في اليونان .. فورًا عقد رئيس الجمهورية “اجتماع حرب” مع رئيس الوزراء ووزير الصحة .. تعلموا من أزمتهم الاقتصادية أن يكون هناك شخص واحد مسئول .. طلب الرئيس ترشيح أحد العلماء فقدموا له د.سوتيريس تسيودراس مثل عوض تاج الدين عندنا .. استدعاه الرئيس وقال له جملة واحدة “اليونان في عهدتك” كلمتك فوق الجميع .. صلاحيات مطلقة ولا يناقشه أحد .. فرض لبس الكمامات علي أي متردد علي المستشفي والأطقم الطبية .. بدأ إغلاقا تدريجيا لكل الأنشطة مع أن شهر أبريل هو أكثر شهور العام إيرادا للسياحة ولذلك ألغي مهرجان السينما والتليفزيون السنوي الدولي واحتفال عيد الفصح الديني وكلاهما يدر للحكومة 80 مليون يورو ..
بعد ظهور أول وثاني حالة قرر سوتيريس تخفيف العمالة في القطاع العام والخاص ومنح كبار السن أجازة بأجر .. بعد أن بلغت الإصابات 30 تم إغلاق المطاعم والمقاهي والمحلات التجارية أما الصيدليات والبقالات فتعمل بـ40% فقط .. عندما وصلت الحالات إلي 100 حالة تم فرض حظر تجول كامل في كافة أنحاء البلاد ومنحت تسهيلات لعدد محدد ينزل الشارع لكن قبل نزوله لابد من الاتصال برقم خاص بالشرطة لتبعث له برسالة بالسماح أو الرفض..
اليونان لم تمارس تصريحات عنترية أو مطمئنة ولم تتباه بأعداد المصابين القليلة بالنسبة لدول أغني وأكثر تقدما مثل ألمانيا وإسبانيا وإنجلترا .. لم يراهنوا علي “وعي الشعب” وبالمناسبة كثير من اليونانيين عمال باليومية في الموانئ وسيارات النقل .. الحكومة لم تتكلم أو تصرح أو تتفاخر وتركت الطبيب ولجنته يمارسون كل الصلاحيات وهم لها صاغرون ومنفذون..
العلم أولا وأخيرا .. لذلك اليونان هي أول دولة في العالم تفتح شواطئها وجزرها للسياحة بعد 3 أسابيع أي 15 يونيو القادم .. ولاحظ أن 70% منها لم يظهر بها الفيروس نهائيًا .. أهل الخبرة يسعفوك في إدارة الأزمات .. والشعارات والعضلات والتصريحات لن تنجز شيئًا .. بالمناسبة رئيس وزراء اليونان كرياكوس ميتسوتاكيس لم يدل بأي تصريح إلا عندما تأكد أن بلاده اجتازت الأزمة وتفتح أبوابها للسياحة الأوروبية..