يتحول شهر يونيو سنويا في مصر وربما في بعض الدول الشقيقة الي “مولد” الزعيم الخالد جمال عبد الناصر.. .أنصاره ومحبوه –حتي الذين لم يعاصروه- يتفننون في تبرير أن النكسة الشهيرة كانت مؤامرة امبريالية رجعية تم استدراج الجيش المصري اليها.. والحقيقة أن هذا القول فيه اساءة بالغة للرجل لانه يعني ببساطة أنه كان ساذجا وذهبت كل العلوم العسكرية التي درسها في الكلية الحربية وشغل منصب كبير المعلمين بها سدي..
فقد دخل الحرب ومعظم قواته مغروسة في حرب عصابات باليمن دفع فيها غطاء مصر من الذهب بالكامل لزعماء القبائل ثم خانوه..بل أنه أصر علي تلقي الضربة الاولي التي تم فيها تدمير المطارات بالكامل ومقتل عدد كبير من قواتنا اعتقادا منه انه قادر علي رد الضربة بعد ذلك ثم اكتشف انه عاش وهما كبيرا..
استكان الناصريون واليساريون الي خرافة المؤامرة ضده بينما بعد ذلك رفضوا تصديقها بعد سقوط مبارك ..وبلغ الايمان والتباهي بعبقرية ناصر المزعومة حدا جعلهم يزعمون أنه هو الذي وضع خطة عبور قناة السويس وتحطيم خط بارليف في 73 ..وهو كلام غريب معناه أن الزعيم هو القائد الوحيد في العالم الذي وضع خطتين واحدة للهزيمة وأخري للنصر!!
تدريجيا حول الناصريون خيبة النكسة الي شيء اخر يحتفلون به سنويا وهو رفض الشعب المصري تنحي عبد الناصر في 9 يونيو 1967 وتمسكوا به قائدا وزعيما ملهما.. الان بعد مرور اكثر من نصف قرن علي خطاب التنحي ثم موافقته في اقل من 24 ساعة علي العودة للسلطة من جديد ..يظل السؤال مطروحا هل كان التنحي تمثيلية متفق عليها ؟وهل كان خروج الشعب لمطالبته بالبقاء بايعاز من الاتحاد الاشتراكي العربي التنظيم السياسي الوحيد وقتها أم انها جاءت عفوية وئلقائية؟
اتذكر يوم التنحي جيدا ..فقد ارخي الليل سدوله ليلف القاهرة في ظلام دامس زاد من عتمته اللون الازرق الذي دهنت به كل النوافذ تنفيذا لتعليمات الدفاع المدني لبلد في حالة حرب..النور الوحيد كان ياتي من التليفزيون في الصالة الكبيرة بمنزل العائلة حيث تحلق بعض افراد الاسرة جلوسا أو وقوفا ينصتون بترقب بالغ وعيون جاحظة للشاشة الصغيرة وناصر يقول في صوت خفيض وحزين انه يتنازل عن منصبه ويتحمل مسئولية ماحدث “لم يذكر انه انهزم” وسيعود الي صفوف الشعب مواطنا عاديا في صفوف الامة.. بكي بعضنا وذهل اخرون من وقع الصدمة..
وجدتني وانا في هذة السن الصغيرة أقول “بعد ايه” ..رمقني الجميع بنظرات غاضبة وحظيت بتهديد أنهم سيغلقون علي باب حجرتي لا أغادرها حتي أعتذر عن الجرم الذي ارتكبته.. فقط والدي رحمة الله عليه تدخل لنجدتي قائلا” الواد معه حق ..خربها وعايز يلبسها لمن يأتي بعده”!
لم نكن أنا وغيري نعرف زعيما غيره ومن عيوب يوليو 52 أن الرؤساء كانوا لاغني عنهم لأنهم رسل العناية الالهية ..لكن في هذة السن المبكرة شعرت انه خذلني وجيلي بأكمله..فقد نشأنا علي كاريزما رهيبة لرئيس يتحدي العالم كله فتصورنا أنه “سويرمان” وصدقنا أننا هزمنا انجلترا وفرتسا واسرائيل 1956 ثم عرفتا أن اسحاب قوات العدوان الثلاثي تم بعد الانذار الامريكي لايزنهاور والسوفيتي لخوروشوف وموافقة مصر سرا علي مرور السفن الاسرائيلية في خليج العقبة بعد أن كان محظورا عليها..
والحقيقة أن هزيمة يونيو فائدتها الرئيسية انها كانت بمثابة افاقة جزئية لشعب عاش طويلا يهتف لانتصارات وهمية ويشيد بزعامة واهية..
لم تكن تركيبة عبد الناصر السياسية والاجتماعية تميل ابدا الي ترك السلطة طواعية كما حاول هو وكاتبه الاثير محمد حسانين هيكل ترويج وترسيخ هذا الاحساس للناس ..لا استطيع الجزم أن التنحي كان تمثيلية متفق عليها مع أركان الحكم ولكن من المؤكد انه كان تحركا محسوبا بدقه ومخططا بحنكة وأعتمد غلي معرفة شبه يقينيه بردود أفعال المصريين وعواطفهم الجياشة وتلاحمهم وقت الازمات….
ويبقي بعد ذك الامر المحير الذي جاءت عنه اجابات مختلفة لدي المؤرخين وهو هل كان خروج الجماهير لرفض التنحي تلقائيا وطبيعيا أم أنه جاء بترتيب مسبق مع قيادات الاتحاد الاشتراكبي قي المحافظات التي تردد انها جهزت اوتوبيسات كبيرة لنقل الجماهير ؟
لاأحد يستطيع الجزم باجابة محايدة وموضوعية عن هذا الامر..التحليل النفسي يشير الي أن المصريين صدمتهم الهزيمة لحد بعيد ولم يستوعبوها بالاضافة الي أن حبهم لعبد الناصر كان اشبه بطفل لايستطيع التخلي عن أبويه!
الحقيقة اننا لم نكن شعبا مسلوب الارادة كما حاولوا أن يصورونا ..فلم يسبق لامة مهزومة ومطعونة في كبريائها أن راهنت علي قائدها المهزوم باعتباره الامل الاخير في تحرير الارض..
من ثم فأن كان الظن الغالب أن التنحي كان متفقا عليه الا أن المظاهرات بهتافاتها وزخمها كانت طبيعية .. ومايؤكد هذا الاستنتاج أن المظاهرات تكررت مرة أخري في الخرطوم والسودانيون يهتفون لغبد الناصر والملك الراحل العظيم فيصل رحمة الله عليه الذي تجاوز كل الخلافات مع ناصر ودعم مصر وجيشها بكل ماطلبته لتتمكن من بناء نفسها مرة أخري..
علي اية حال كانت يونيو السبب الاول في انقسام المصريين حول ناصر والسادات..أيهما بطل وأيهما خائن وبنفس القدر الشاذلي واحمد اسماعيل ..ودخل صحفيون وسياسيون علي الخط ليزيدوا الفرقة والتحزب..
يونيو كانت بداية تسليم عقول المصريين لاعلام مغرض وتعطيل قدرات التفكير والاستنتاج فينا ترسيخا لمبدأ “الزعيم يعرف أكثر”.