مهمة التعبير تشير إلى تحويل القضايا والمشاكل الشخصية المنتشرة على المستوى الابتدائي –micro level- إلى قضايا عامة تحقق فيها آمال وأهداف واحتياجات المستوى الأولى وتعبر عنه.
ومهمة الاندماج تعني التوحد حول أهداف عامة، وقد تتراوح هذه المهمة من القيام بعملية حشد من أجل المشاركة في أشكال تنظيمية في عمل جمعي، إلى مستوى أدنى يتمثل في حشد التأييد لمنظمة أو إتحاد.
ومهمة التثقيف والتعليم لها طبيعة ثنائية: فهي من ناحية تقوم بنشر منظومة القيم والأطر المدنية والتدريب على المشاركة في الحياة العامة وممارسة المواطنة وتعلم الديمقراطية من خلال العمل، ومن ناحية أخرى فإنها تسمو بالأهداف وترفعها إلى أهداف عامة وتحولها إلى حوار مجتمعي كان من الممكن لهذه الأهداف أن تبقى قضايا غائبة لا يلتفت إليها الرأي العام ولا الفاعلين السياسيين.
عملية التحول الديمقراطي (الدمقرطة)
يعتبر “التحول الديمقراطي” عملية إجتماعية أو طيف مركب من عمليات متداخلة ذات نسيج متداخل لا يمكن فصل مكوناتها إلا على مستوى التحليل النظري. وهي ليست عملية فورية، بل لها بداية وذروة وناتج نهائي. ويمكننا أن نميز ثلاثة فترات في عملية التحول الديمقراطي: (1) المرحلة أو الطور الإبتدائي (الأولي) وفيها يطلق العنان للعمليات الإجتماعية التحويلية للحركة، وتمتاز هذه المرحلة بالقدرة على تحويل النظام القديم إلى نظام إجتماعي جديد. (2) المرحلة الإنتقالية وفيها تنتهي وظيفة النظام القديم ويبدأ ظهور النظام الجديد. (3) مرحلة الإستقرار، وفيها يستقر النظام الديمقراطي للحكومة وتكون الملاذ الوحيد لتفاعل المصالح والقيم.
لكن يبقى تساؤلاً مطروحاً على بساط البحث وهو: من الذي يطلق العمليات التحويلية من عقالها إلى دولاب الحركة؟
يجيب كلاً من Linzو Stepan و Charles Tilly بالتأكيد على دور نخبة السلطة للنظام القديم في إحداث تغييراً كبيراً في الحياة العامة، ولو أن نخبة السلطة الإستبدادية أدخلت تغييراً جوهرياً لأي أسباب كانت (أزمة إقتصادية، ضغوط دولية، قلاقل إجتماعية، هزيمة عسكرية، أو موت زعيم كارزمي) بما يفضي إلى عملية تحررية من إستبداد الدولة فإننا نكون نتيجة لذلك أمام أثرين هامين:
1) إنشقاق النخبة إلى متشددين وإصلاحيين.
2) آمال متدرجة للمجتمع لتحرر أكبر نحو عملية تحول ديمقراطي في النهاية.
إن إنشقاق النخبة يقلل جور النظام ويضع قضية شرعية السلطة على جدول الأعمال –وبالتالي- يعزز من ضغط المجتمع المجتمع نحو إكتمال عملية التحرر في نفس الوقت الذي يتم فيه السماح لظهور نخبة جديدة مغايرة للنخبة القديمة تعبر عن الطموحات والآمال العامة. ثم لا تلبث “الثورة التفاوضية” أن تعبر عن نفسها في مأسسة كيانها وصولاً إلى الديمقراطية.
لقد أصبحت هذه ا لطريقة الإستنتاجية (طريقة التفكير كما سبق) مدخلاً شائعاً في عملية التحول الديمقراطي والفترة الإنتقالية نحو الديمقراطية.
الإنتقال نحو الديمقراطية وظهور المجتمع المدني:
منذ السبعينات، أو بشكل أكثر تحديداً منذ ثورة البرتغال عام 1974 وهناك ملاحظة لعملية الإنتقال نحو الديمقراطية من الحكم الإستبدادي في العديد من الدول. وهو ما أطلق عليه Samuel Huntington “الموجة الثالثة للتحول الديمقراطي”. وصلت عملية التحول الديمقراطي وأخيراً الديمقراطية إلى جنوب أوربا وأمريكا اللاتينية والعديد من الدول، لكن الموجة الثالثة من عملية التحول الديمقراطي إستقبلت دفعة هائلة بعد إنهيار الكتلة السوفيتية. ففي معظم هذه الدول تمكنت عملية التحول الديمقراطي من إفساح المجال العام للمجتمع المدني. لكن تجدر الملاحظة أن هناك قلة من الدول كان فيها المجتمع المدني هو المبادر بدفع النظام الأوتوقراطي نحو المسار الديمقراطي.
المجتمع المدني وعملية التحول الديمقراطي في أوربا الجنوبية وأمريكا اللاتينية:
إن بداية الموجة الثالثة من الديمقراطية ترتبط بالحملة العسكرية التي أنهت الحكم الإستبدادي لـAntonio Salazar في البرتغال عام 1974. إلا أن الفترة الإنتقالية نحو الديمقراطية في أسبانيا تُعَد بمثابة الفترة النموذجية للكثير من دول أمريكا اللاتينية. وذلك لأن أسبانيا هي الدولة التي ظهرت فيها عناصر المجتمع المدني وعملت في بيئة تفتقر إلى المؤسسات الديمقراطية. فالمرحلة الأولى الإنتقالية التي قامت بها النخبة مشفوعة بضغط القاعدة بدأت بشكل مباشر بعد وفاة Franko في عام 1975. ولقد كانت المرحلة الإنتقالية للنظام قصيرة نسبياً وسبب ذلك أن المطالبون بالديمقراطية ومؤيديهم ورثوا مجتمعاً مدنياً لم يكن راكداً، بل كانت تدب فيه الحياة، وورثوا مجتمعاً إقتصادياً مؤسساتياً لكنه كان في حاجة إلى إعادة التنظيم، وورثوا جهاز دولة صالحاً للعمل لكنه ملطخاً بالإستبداد، كما وروثوا حكماً قوياً وحديثاً لسيادة القانون. ولهذا تحقق الإستقرار للديمقراطية الجديدة في فترة ليست بالممتدة عندما إجريت إنتخابات عام 1982 والتي إنتهت بفوز المعارضة الإشتراكية.
وفي العديد من دول أمريكا اللاتينية كانت بعض عناصر المجتمع المدني حاضرة في الحياة العامة قبل الإنتقال للديمقراطية في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي وذلك بسبب حقيقة أن أنظمة الحكم العسكرية البيروقراطية الإستبدادية لم تكن لديها مطلق السلطة على الفضاء العام.
وفي شيلي – على سبيل المثال – قام النظام الإستبدادي بتسريح المنظمات المدنية وإضعاف المجتمع المدني، لكن المعارضة الديمقراطية وجدت الحماية تحت مظلة الكنيسة الكاثوليكية التي ساعدت على إنطلاقة المرحلة الإنتقالية الأولية ورفض حكم Pinochet ونظامه الإستبدادي في الإستفتاء الشعبي عام 1988.
وفي البرازيل كان المجتمع المدني ضعيفاً وكانت نسبة معتبرة (حوالي 40% في عام 1988) من السكان تريد العودة إلى الحكم العسكري.
وعلى طول العديد من شعوب دول أمريكا اللاتينية كان لاهوت التحرير الكاثوليكي للإصلاحيين الكنسيين إضافة إلى نشطاء إتحاد العمال يمهد الطريق لبدايات المجتمع المدني، وعندما بدأت عملية التحول الديمقراطي كانت هذه المجموعات وأعضائها مشاركين نشطاء في عملية التحول الديمقراطي.
المجتمع المدني في شرق أوربا ووسطها:
إن العديد من الباحثين يربطون بين إنهيار الشيوعية في شرق أوربا ووسطها وإعادة الإهتمام والحياة للمجتمع المدني في الفكر الإجتماعي الغربي. ولا شك أن هذه علاقة تلازمية وليست عرضية (مصادفة)، وذلك بسبب أن هزيمة الشيوعية قد حدثت بشكل دراماتيكي مذهل دون أن تراق فيها الدماء عكس ما حدث في أنظمة الإستبداد في أمريكا اللاتينية وأوربا الجنوبية على الرغم من أن الكتلة السوفيتية الشيوعية قد تلقت تعزيزاً فيما كان يطلق عليه “مبدأ برجنيف” Brezhnev في بعض الدول – بولندا على سبيل المثال – كان المجتمع المدني حازماً وحاسماً في هزيمة الشيوعية، بينما في معظم الدول الشيوعية السابقة الأخرى ظهر المجتمع المدني فقط بعد الفترة الإنتقالية نحو الديمقراطية. المجتمع المدني في بولندا نما وتطور وهو يحمل المعارضة للدولة الشيوعية وكان في المرحلة الأولية لتطوره مشحوناً ومحملاً بالأهداف الأخلاقية التي كان يشاركه فيها مدىً من المجموعات المعارضة الضعيفة في هنغاريا وألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا.
إن تطور المجتمع المدني في معارضته للدولة الشيوعية قد تصادم في شكله وعلاقته بالدولة بفقدان الثقة المتبادل ولا يزال هذا يتردد حتى يومنا هذا.
والنقطة الأخرى هي أن النجاح المذهل للحركات الإجتماعية السلمية التي ظهرت عام 1989 (وفي بولندا 1980) خلقت إهتماماً فتجدداً في الفكر الغربي فيما يتعلق بالمجتمع المدني.
تستحق المراحل التكوينية للمجتمع المدني في بولندا الكثير من الإهتمام لأنهاأضحت النموذج لدول أخرى في المنطقة وخاصة هنغاريا وجمهورية التشيك وسلوفاكيا ولا شك أن هذا النموذج قد حدد بشكل كبير الأدوار الوظيفية للمجتمع المدني (وهي معارضتها على سبيل المثال للدولة) وكيف تنتشر عملية التحول الديمقراطي ويستيقظ المجتمع المدني.
تحدث أثناء فترة النظام الانتقالي نحو الديمقراطية ثلاثة عمليات تقريباً في كل دولة تخرج من ركام الشيوعية. أولاً عملية تجميع النواة الصلبة للمجتمع المدني متحدة ابتداء في جهد لتحدي النظام الذي يمثل العدو المشترك. ثانياً التسريح الجزئي للحركة الأصلية (وهي ظاهرة تمت ملاحظتها بشكل مبكر في أمريكا اللاتينية). ثالثاً عملية تطوير أنماط وأشكال مؤسساتية لمختلف القوى الاجتماعية والمبادرات المدنية على المستوى المتوسط.
إن الانسحاب الجزئي لجزء من الجماهير إلى عالمها الخاص أكد على مستوى ومدى التحرر من الوهم في مسار التغيرات الجذرية التي كانت تحدث. كما أن هذا الانسحاب قد أشار بوضوح إلى المخاوف من ظهور قواعد إجرائية ليست ذاتية الطابع. لكن المجموعة الأخرى من الجماهير المحتشدة بقيت في الفضاء العام (بمعنى لم تنسحب إلى الفضاء الخاص) وكان لها أبلغ الأثر في خلق أسس المجتمع المدني. ومن الجدير بالإهتمام ملاحظة الأهمية التي تلعبها نسبة جماعة إلى جماعة أخرى في قيام المجتمع المدني. وهو ما يعني ببساطة أنه كلما كانت نسبة مستوى التسريح الإجتماعي كبيرة كلما كان المجتمع المدني ضعيفاً، ويصبح تحول الاتجاهات النفعية المتطابقة مع النظام القديم إلى إتجاهات مدنية محدودة الأثر.
وأثناء فترة الاستقرار (التضامن) يصبح النظام الديمقراطي وإجراءاته – كما يقول Linzو Stepan – “وهو اللعبة الوحيدة في المدنية”. ومن ثم تصبح القواعد والقوانين الأساسية الرسمية التي تم تقنينها بشكل دستوري هي الأساس المعياري للنظام برمته، وفي الوقت ذاته يتم تنظيم أعمال الدولة، والمجتمع المدني وأسس مشاركة المواطنين في الفضاء الإجتماعي. ويمكن القول هنا أن النظام الديمقراطي للحكومة قد إستقر شريطة أن تتوافر الشروط السابقة، ويمكن القول أن الفترة الإنتقالية للنظام قد تكللت بالنجاح.
المجتمع المدني في آسيا:
إن المجتمعات الآسيوية (وعلى رأسها الصين) تنتمي إلى نطاق ثقافي يمكن أن نطلق عليه نسبياً “Confucian” الكونفوشي، ولو أن كورياتمثل خليطاً بين البوذية والمسيحية، وكذلك النظام السائد في اليابان ينتمي إلى الشنتوية Shintoism.
هذه الأنظمة الدينية والفلسفية المختلفة تخلق إطاراً مرجعياً يشكل فارقاً جوهرياً في المظهر الأساسي لظهور المجتمع المدني والإنتقال نحو الديمقراطية.
ويشير العديد من الباحثين إلى أنه في ظل هذه الحضارة الآسيوية فإن مكانة الفرد في المجتمع وعلاقاته بالىخرين تختلف عنها في المجتمعات الغربية. كما أن شخصية المجتمعات تختلف عنها في النماذج الغربية. فالمفهوم الغربي للمواطنة له شخصية فردية سائدة بينما في التنوع الآسيوي تذوب الشخصية في المجتمعية كما أنها لا تتسم بشدة العداء للدولة ولكنها في تناغم مع سياستها. وهذا مما يتطابق مع ما تؤكد عليه التعاليم الكونفوشية في واجبات وإلتزامات المواطنين تجاه المجتمع والدولة أكثر مما تؤكد على حقوق الأفراد. ومن هذا المنظور يمكن القول أن الحياة الغربية العامة قائمة على نظام من العلاقات التي تتسم بـ ، بينما يقف النظام الآسيوي مخالفاً للنظام الغربي لأنه يقوم على علاقات قوامها الثقة. ومع ذلك فمن الممكن أن تكون مثل هذه الخلفية الثقافية ارض خصبة لظهور مجتمعات محلية والمنظمات التي تعمل بشكل أساسي في إطار مجتمع مدني. من زاوية النظر هذه تتنوع الدول الآسيوية على نحو كبر. ففي كوريا كان المجتمع المدني آداة بالغة الأثر في الإنتقال إلى الديمقراطية، وبعد أن تمت هذه العملية بنجاح تضاعفت العضوية في المنظمات والمجتمع المدني ما بين عامي 1981 و 1990. وفي الصين تسيطر الدولة على مثل هذه المنظمات وتكاد المنظمات المستقلة عنهاتصل إلى حدها الأدنى وخاصة منذ عام 1989. ومع هذا، وحتى في الصين، يتزايد عدد هذه المنظمات مكوناً “مجتمعاً مدنياً” تقوده الدولة.
مواطن ما بعد الحقبة الأوتوقراطية
إن نظام أوتوقراطي، مهما كان جائراً، إلا أنه يحظى بنسبة من تأييد السكان. وهذه عادة ما تكون قلة منتفعة ولكنها تكفي النظام لأن يستمر ويعيد إنتاج نفسه. ولكن الفترات الإنتقالية نحو الديمقراطية تركت مشكلة أولئك الذين خدموا النظام الأوتوقراطي ولكنهم فقدوا إمتيازاتهم التي كانوا يمتلكونها. ولكن الحنين إلى النظام الأوتوقراطي لا يشعر به فقط هؤلاء الذين فقدوا إمتيازاتهم ولكن أيضاً أولئك الذين كانوا عملاء للنظام الأوتوقراطي ويجدون صعوبة في التكيف مع قواعد اللعبة الجديدة. إن صنف هؤلاء الذين لهم مواقف ومعتقدات إيجابية مرتبطة بالنظام القديم قد عبر عنهم Hans Dieter Klingemann بما يسمى مواطن “ما بعد الأتوتوقراطية”، مهما كانت طبيعة النظام (دكتاتورية عسكرية، أبارتهيد، أو حكم شيوعي) فإنه بعد إنهياره يترك مجموعة من هؤلاء المواطنين الذين لديهم القدرة على تحويل معتقداتهم من مواطن “ما بعد الأوتوقراطية” إلى ديمقراطي من خلال عملية طويلة نسبياً من إعادة التأهيل أو التربية. وطبقاً لعمليات المسح الإحصائي في منتصف التسعينيات من القرن الماضي (بعد عامين من الإنتقال) فإن حجم هذه النوعية تراوح من نسبة 12% في كوريا الجنوبية إلى 22% في أفريقيا الجنوبية إلى 25% في بولندا إلى 36% في ألمانيا الشرقية حتى نسبة 38% في شيلي.
عضوية الإتحادات التطوعية
أن العضوية في الإتحادات التطوعية هي إحدى مؤشرات الإنخراط المدني وتظهر الإحصاءات (التي أجرتها World Values Survey) بأن العضوية تتنوع بشكل جوهري بين الأمم الديمقراطية: من حوالي 70% في الدول الإسكندافية والولايات المتحدة إلى أقل من 30% في اليابان وأمم أوربا الجنوبية. علاوة على ذلك، فمواطني الولايات المتحدة والدول الإسكندنافية ينخرطون – في المتوسط – في عدد كبير من الإتحادات.
تظهر جداول المسح الإحصائية بأن عضوية المنظمات التطوعية تزداد في دول مثل الولايات المتحدة بينما يقل نشاط المجتمع المدني في دول مثل اليابان وبولندا. هذه الفروق في الإنخراط المدني يمكن تفسيرها طبقاً لأربعة نماذج:-
الأول: يربط مستوى المشاركة المدنية بمستوى النمو الإقتصادي للمجتمع، فكلما كان مستوى المعيشة مرتفعاً كلما كان عدد المواطنين المنخرطين في الإتحادات التطوعية أكبر.
الثاني: يربط مستوى المشاركة (الإنخراط) المدنية بالتعاليم الدينية السائدة: فالبروتستانتية – خلافاً للأرثوذكسية والإسلام والكونفوشية وحتى الكاثوليكية – يُنظَر إليها من حيث دعمها لنظام أخلاقي يقوم على تشجيع الأفراد من أجل القيام بأعمال تطوعية تفي بحاجات المجتمع الوظيفية.
الثالث: يركز على طبيعة النظام الديمقراطي: فكلاً من نماذج الرفاهية الليبرالية والإشتراكية للديمقراطية تشجعالمواطنين على المشاركة العامة، بينما النموذج المشترك للديمقراطية أقل تفضيلاً لعملية المشاركة المدنية.
رابعاً: إن إستقرار وإستمرارية الديمقراطية يربط بشكل إيجابي المواطنين في المشاركة المدنية، فكلما كانت الديمقراطية أكثر عراقة وإستقراراً كلما كانت مشاركة المواطنين في الإلتحاق بالإتحادات التطوعية أكبر.
وفي الحقيقة يمكن القول أن كل التفسيرات النموذجية الأربع السابقة تكمل بعضها البعض وتساعدنا على فهم الإختلافات في المشاركة المدنية في مجتمعات ديمقراطية مختلفة.
طبقاً لما يقرره Putnam، فإن مبادئ الثقة والتبادل منناحية، ومبادئ التبعية والإستغلال من ناحية أخرى، كلاً من هذه المبادئ يصلح لأن يكون روابط إجتماعية ذات أثر فعال. إلا أن مستوى الفعالية المدنية والمؤسساتية يكون مختلفاً وفقاً لنوعية المبادئ السائدة (مبادئ الثقة والتبادل أم مبادئ التبعية – الإستغلال). الثقافة المدنية السامية ، وما تتضمنه من مصادر إجتماعية للثقة والعايير والروابط تتراكم ويسمو ويكبر بعضها البعض. ونتيجة لذلك ينشأ توازناً إجتماعياً إيجابياً. يتميز هذا التوازن بمستوى رفيع بين التعاون والثقة والتأييد المتبادل وبمستويات هامة من المشاركة المدنية، وبشكل عام زيادة في رفاهية المجتمع.
في الدول التي إنبثقت من الشيوعية والتي أتمت بنجاح الإنتقال إلى الديمقراطية مر الإستقرار في نظامها الديمقراطي بمسارين؛ من ناحية، فإن ميراثها الملتبس للروابط الإعتيادية العامة والتي تمت صياغتها أثناء النظام السابق مستمرة في العمل. ومن الناحية الأخرى، هناك خطط إستراتيجية تم إبتداعها بغرض ضمان النجاح الوظيفي للنظام الجديد. وخير مثال على ذلك لمثل هذه الإستراتيجية هو تحويل رأس المال السياسي إلى رأس مال إقتصادي أثناء الفترة الإنتقالية من الإقتصاد الموجه إلى إقتصاد السوق. وهناك إستراتيجيات مشابهة تكونت في الفترة الإنتقالية للنظام، عندما تم تطوير قواعد أساسية لكنها كانت ضعيفة في موضع التنفيذ. هذه الإستراتيجيات، فعالة كوسيلة من وسائل حماية المصالح الخاصة لمجموعات المصالح المختلفة في غضون الفترة الإنتقالية للنظام وغالباً ما يتم تطبيقها في الخط الفاصل بين نظام الحكم والإقتصاد، تظل – هذه الإستراتيجيات – حاضرة في فترة الإستقرار. تحاول – الإستراتيجيات – أن تجد سبيلاً ملتوياً من حول القوانين والقواعد الرسمية، في حين أن الروابط بنخب السلطة تضمن الحصانة من إقامة الدعاوى القانونية. وينتج عن ذلك، في مستوى مؤسسات الدولة، فساداً؛ وفي المستوى الموسط، إلى تباطؤ التطوير من النفعية إلى المواطنة؛ وعلى مستوى البنى الصغيرة ، فإن مثل هذه الإستراتيجيات تزيد من فكرة أن القوانين الرسمية ما هي إلا مظهر خادع والتي من ورائها يحقق أهل السلطة والمال مصالحهم النفعية على حساب الرفاهية العامة.
رابعاً: أريد أن أخلص أن:
الكاتب وضح في مقالته ما هو المجتمع المدني والدولة الديمقراطية وعملية التحول الديمقراطي والإنتقال نحو الديمقراطية وظهور المجتمع المدني وضرب أمثلة على المجتمع المدني من شرق أوربا ووسطها وكذلك المجتمع المدني في آسيا والمجتمع المدني والقومية وكذلك الثقافة السياسية وتوعية المجتمع المدني.
إلا أن هناك بعض المآخذ عليه لمفهوم المجتمع المدني والتحول الديمقراطي بالنسبة لمفهوم المجتمع المدني على رغم من تأصيل الكاتب لوجود المجتمع المدني تاريخياً منذ فترة الرومان القدامى وأن الإستعمال الصريح للتعريف وضعه أفلاطون وأرسطو – وإن كان في تعريفه لم يشر إلى الأول – إلا أنه لم يوضح الإطار الفلسفي لمفهوم المجمتع المدني بمعنى آخر هل هو مفهوم علمي أم أيديولوجي؟
وعلى الرغم من إستخدام المؤلف لعملية المسح الإحصائي للدلالة على أن الدول التي إستقرت أنظمتها الديمقراطية (كالولايات المتحدة) – على سبيل المثال – تشكل أعلى نسبة وجود للمجتمع المدني إلا أن المؤلف لم يوضح لنا إن كان لا يزال فاعلاً في عصر العولمة بل لم يتطرق ولو بإشارة من بعيد للدور الوظيفي للمجتمع المدني المحلي الطابع مع هذه الظاهرة العالمية التي فيها تحويل الظواهر المحلية والإقليمية إلى ظواهر عالمية.
وعندما تناول نموذج المجتمع المدني في النطاق الآسيوي – الصين واليابان – الذي يقل فيها ظهور المجتمع المدني نظراً لثقافة إرثية آسيوية تعلي من قيمة ذوبان الفرد في الكل، في المقابل نموذج المجتمع المدني الغربي، إتخاذ المؤلف إلى النموذج الغربي لليبرالي الذي يعلي من قيمة الفرد في فضاء عام لا يخضع لسيطرة أي فرد آخر أو سلطة ولكنه مجال تفاعل الإرادات الفردية الحرة.
ويقلل المؤلف من أهمية ودور الوصايات التقليدية – للأديان – في تطور وينمو المجتمع المدني حيث زج الإسلام مع أصحاب البيانات والعقائد الأخرى وهو ما يعكس فهماً قاصراً للدور الوظيفي للقيم الإسلامية التي تحض أتباعها على الفضائل في كل منشط من مناشط الحياة وهي من صميم الآداء الوظيفي للمجتمع المدني حيث يعمل الأفراد في فضاء عام تتجلى فيه إمكاناتهم الفعلية للتنظيم الذاتي.
وبالنسبة لعملية التحول الديمقراطي عرض المؤلف لعملية التحول الديمقراطي على كونها تتم على مراحل ثلاث: مرحلة أولية وإنتقالية وأخيراً مرحلة بناء النظام الديمقراطي وهو قد إستعار في ذلك منهج من مناهج النقد الأدبي في الرواية الذي لابد أن يتوافر فيها العرض التمهيدي ثم العقدة وأخيراً النتيجة. وقد تطرق المؤلف للعلاقة بين المجتمع المدني والتحول الديمقراطي وكان السؤال البحثي في إطار هذا البحث يتلخص في السؤال التالي: هل المجتمع المدني سابق على الديمقراطية أم العكس؟ لم يجب المؤلف على هذا السؤال البحثي وإنما إكتفى من خلال سرد تاريخي للتأكيد أن كلاً منهما يسبق إحداهما الآخر في لحظة تاريخية معينة وفي نطاق جغرافي خاص، وهي رؤية للمؤلف تفصل فصلاً حاداً بين المجتمع المدني والدولة الأوتوقراطية وتسلم بفرضية أن المجتمع المدني شرطاً لازم للديمقراطية السياسية والإجتماعية في عملية تحول الدولة من الأوتوقراطية إلى الديمقراطية.
دكتور القانون العام ومحكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان