الإنتماء للوطن لا يأتى إلا من حب الوطن ، وحب الوطن يولد مع الإنسان ، ثم يزداد ويعلو ويرتقي بداخله ، شريطة أن تكون نشأته وسط مجتمع محب لوطنه ، مجتمع يجد فيه من التصرفات والأفعال نحوه ما يعزز وينمي داخله هذا الحب والإنتماء ، ويجعل منه بذرة لثمرة زرعت فى أرض خصبة ، عفية قوية موطنها داخله ، تنمو وتترعرع وتتمدد جذورها لتتعمق وتستقر فى عقيدته منذ نعومة أظفاره ، ليحصد المجتمع طرحا مثمرا لمواطن وطني مخلص ، بنيانه الحب والإنتماء لوطن رعاه وأعطاه ، فأستحق أن يجني ثمار هذا العطاء ، فيصبح قيمة مضافة للوطن يفتخر به ، ويفتخر به وطنه .
فبناء الإنسان مهمة وطنية قومية عظيمة ، تعد أولوية هامة تتقدم على بناء البنيان والعمران ، فبناء البشر أهم وأسمى من بناء الحجر ، تلك الأولويات لانبتدعها ، فهى قواعد مستقرة على مدى قرون ، ولا نبالغ إذا قلنا أنها القواعد الأولى في الإتباع منذ بدء العمران وتأسيس الحضارات الأولى ، وهو ما يمكن أن نضعه في خانة ” فقه الأولويات ” الذى يتجاوز المفهوم الديني لهذا المعنى ، والذى أقره علماؤنا الأجلاء كطريقة مثلى للتعامل مع القضايا الكبري المعقدة ، والذى أتاح أيضا أن نأخذ الأهم فالمهم ، الأمر الذى ينتج بناء مثاليا للحياة .
إن بناء الإنسان لا يختلف كثيرا عن بناء الحجر وإن كان يفوقه في الأهمية كثيرا ، فلكل بناء قواعد ، ولكل قواعد أصول وآليات ، بدونها يكون البناء ضعيفا ، ينهار تحت وطأة ضغوط الحياة ، ويصبح هشيما تزروه الرياح ، فبناء الإنسان يحتاج إلى تدعيم الثوابت وتأصيل القيم وأهمها قيمة الوطن ، وتحضرنى هنا نصيحة لمدير أحدى الجامعات بالخرطوم ، عندما القى كلمته فى مؤتمر للآباء عقد بشأن التعليم ، تحدث فيه قائلا ” ابنِ ابنك ولا تبني له ، وإستثمر فيه ولا تستثمر له ” ، فالميراث الحقيقي لأبنائنا ليس المال أو البيت أو الأرض ، إنما الميراث الحقيقي هو أبناؤنا أنفسهم .
لذلك يجب علينا الإدراك بأن أفكار أبنائنا وعقيدتهم تتكون وفقا لنشأتهم ، وسوف تتجه بهم فى نهاية الأمر لإختيار أحد الإثنين اللذين لا ثالث لهما ، فإما أن يكونوا مواطنين صالحين يؤمنون بالوطن ويقدمونه على كل شئ وإن تعارض ذلك مع مصالحهم الشخصية ، أو يكونوا مواطنين طالحين يكفرون بالوطن ويؤخرونه ليصبح لا شئ بالنسبة لهم ولا يسعون إلا لمصالحهم الشخصية حتى وإن كانت ضد صالح الوطن ووحدة شعبه وسلامة أراضية .
إن الحالة التي تابعها المجتمع المصري وأصبحت محل عبرة وإسترشاد لما يمكن أن تنتجه التربية وتوابعها لحد يصل إلى الإختلاف وربما التناقض ، والتي أفرزت شخصين توحي صورتهما في مرحلة الشباب بأنهما ينتميان إلى كيان واحد ، وطبيعة واحدة ، وبالتبعية سلوكيات وتصرفات واحدة ، تؤكد بما لا يدع مجالا للنقاش ، أن منظومة القيم والأصول التي يجري تأصيلها في الإنسان منذ نشأته الأولى، هي التي تنتج الصورة النهائية له وتحدد مساراته وإختياراته، وحدود الولاء والإنتماء إلى وطنه وطريقة تعاملاته مع وقائع مجتمعه ، فإما أن يستمر بطلا مدافعا عن تراب الوطن ، حاميا لقيمه وأخلاقه ، محاربا لأعدائه ، وإما أن يتحول إلى النقيض تماما ويصطف مع أعداء الوطن خائنا ، داعيا وساعيا إلى تدميره ، وإعادة بنائه على قواعد جديدة إستقرت في يقينه ، متناسقة ومتسقة مع ما تربى عليه ، والحالة هنا هي حالة البطل الشهيد أحمد المنسي والخائن الإرهابي هشام عشماوي ، تلك الحالة التي لا تهدأ أو تغفو ، إنما تستقر في ضمير الوطن ، محفورة في صفحات تاريخه.
فالبطل الشهيد أحمد المنسي تربى على حب الوطن وإنكار الذات والتضحية والفداء والدين الصحيح ، إستقر في يقينه أن الدم رخيص والحياة ثمن والفداء حق ، والشهادة أمنية ، ومحاربة الإرهاب قمة الرضا لله ، أحياء لصحيح الدين ، فأستمر بطلا ، ونال ما عاش لأجله وهي الشهادة في سبيل الله والوطن ، حفظا للأرض والعرض .
أما الخائن الإرهابي عشماوي ، فقد استقرت في يقينه أفكار الهدم وسارت مع الدم في العروق ، فقد تربى على فكر “الإخوان” القائم في أساسه على إنكار الأوطان ، وترسيخ روح المعاداة لها ، إحدى وسائلهم لهدم الأوطان لإيجاد كينونات بديلة للوطن ، من خلال إنشاء التنظيمات السرية ، وإقامة البيعات الحزبية ، وكسر روح الولاء والإنتماء للوطن الحقيقي ، وصرف الولاء من الوطن إلى التنظيم ، وجعل التنظيم هو الوطن البديل ، فاختلقوا وطنًا غير الوطن ، كما اختلقوا أيضًا أُسَرًا غير الأسر ، فاخترعوا نظام الأسر ، والذي يتم فيه توزيع الأتباع على مجموعات صغيرة ، يقود كل مجموعة شخص يسمى بالنقيب ، وهو ما يعرف أيضًا بنظام الخلايا السرية ، وسموا كل تشكيلة من هذه التشكيلات أسرة ، ليكون للشخص أسرة غير أسرته ، ووطن غير وطنه.
تربى الخائن على وسائل “الإخوان” لهدم الأوطان ، وعلى رأسها تحريف مفهوم الوطنية ، التي زعموا أنهم دعاتها ، ولكن ما هو مفهوم الوطنية عندهم؟، لقد دعا حسن البنا في رسائله ، إلى ما سماه بوطنية المبادئ والعقائد، لا وطنية الحدود الجغرافية ، وقال مفرقًا بين مفهوم الإخوان للوطنية ومفهوم غيرهم : «وجه الخلاف بيننا وبين دعاة الوطنية ، أننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة ، وهم يعتبرونها بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية»، فيما قال عمر التلمساني ، المرشد الثالث للإخوان ، مؤكدًا هذا المفهوم الإخواني للوطنية : «حدود الوطنية عند الإخوان مقيدة بالعقيدة لا بالحدود الجغرافية»، وهذا تحريف للوطنية ، وهي لعبة إخوانية، تهدف إلى تخويف الشباب من الإنتماء لأوطانهم ، بدعوى أن ذلك يعارض العقيدة الإسلامية ، ليتسنى لهم بذلك إستمالتهم لتنظيمهم وأفكارهم ، تلك التربية التي جعلت من عشماوي إرهابيا وحملته من أرض الوطن الأم “مصر” ، إلى أوطان بديلة مزعومة توهم أنها أرض الرباط .
ومن هنا جاء إسم تنظيمه الإرهابي “المرابطون” ، قبل أن يمعن في إراقة الدماء الطاهرة على أرض مصر الطاهرة ، والحقيقة أنه لا تعارض البتة بين العقيدة والوطن ، بل الأمر توافق وانسجام ، فالعقيدة الإسلامية الصحيحة ، تدعو إلى الإنتماء للوطن ، والدفاع عنه ، والإلتفاف حول قيادته ، والعمل على خيره وازدهاره ، إلا أن الإخوان تفننوا في إبتكار وسائل هدم الأوطان ، وبذلوا قصارى جهدهم في تلقينها لإتباعهم ولقنوها بدورهم إلى النشيء ، ومنها الغلو في مفهوم الأمة الإسلامية على حساب الوطن القُطري، وخلق تعارض وهمي بين الوطن والأمة ، وهذا خلل في الفهم والتصور ، فالعلاقة بين الوطن والأمة ، علاقة الجزء بالكل ، لا علاقة تعارض وتضاد ، فالوطن جزء من الأمة ، سلامته من سلامتها ، ومجده من مجدها ، ولكن الفكر الإخواني لا يؤمن بذلك ، بل يعتبر أى راية سوى راية الدولة العالمية أو دولة الخلافة ، راية زائفة ، حيث يقول سيد قطب : «لقد حارب الإسلام العصبية الجاهلية في كل صورها وأشكالها ، ليقيم نظامه الإنساني العالمي ، في ظل راية واحدة ، راية الله ، لا راية الوطنية ، ولا راية القومية ، فكلها رايات زائفة لا يعرفها الإسلام»، فالوطنية في نظر سيد قطب ، من الجاهلية ، وهذا كلام باطل ، مبني على الغلو في موضوع الخلافة ، وعدم الإعتراف بالدول القُطرية ، وهو فكر شاذ ، يخالف ما أستقر عليه الفقهاء الذين تعاملوا مع مسألة تعدد الأقطار الإسلامية، تعاملًا معتدلًا قائمًا على إحترام أهل كل قُطر لبلدهم وقيادتهم .
ومن وسائل الإخوان أيضًا التي تربى عليها الإرهابي الخائن عشماوي ، عقد التحالفات مع الجهات والمنظمات الخارجية للإساءة إلى الأوطان ، وتشويه صورتها ، وتزويد المتربصين بها بمعلومات كاذبة ، بغية الإضرار بسمعتها والإساءة إلى رموزها ، وإستغلال البرلمانات والصحف الغربية لتحقيق هذه الأغراض ، ومن ذلك أيضًا ، تكريس ثقافة التصارع على السلطة ، وغرس هذا المفهوم في نفوس الأتباع ، والمتاجرة بالدين ، والتلاعب به لتوفير غطاء ديني زائف لهذه الأفكار، بإدعاء أن الإستحواذ على الحكم أوجب الواجبات ، وأن إسقاط الحكومات من آكبر الفروض ، والعقلية الإخوانية التي تتربى على هذه الأفكار ، تسترخص هدم الوطن في سبيل الوصول إلى كرسي الحكم .
إن كل ما تقدم يعيدنا إلى ضرورة التأكيد على أهمية بناء البشر ، باعتبارها الأساس السليم لبناء الأوطان ، والحماية الدائمة ، وحائط الصد الذى يجب الركون إليه في ظل الحروب التي لا تتوقف ضد أوطاننا ، وتجدد أجيالها بدءا من الجيل الرابع مرورا بالخامس والسادس وباقي الأجيال التي يتم التجهيز لها من الحروب الهادفة بالأساس إلى تدمير المجتمعات من الداخل بأيدى أبنائها الذين لم يتم تربيتهم على أسس سليمة ، ولم يتم بناؤهم بالقدر الكافي من القوة التي تمنعهم من السير في طريق الخيانة والإرهاب ، وأن يكونوا معاول هدم للوطن ، إذا ما تم إغفال بناء البشر والاهتمام فقط ببناء الحجر ، حين إذن لن يتبقي فى الأوطان حجر ولا شجر ولا بشر .