كان الباحث والأستاذ الجامعي د.إدوارد سعيد ( 1935 ـ 2003 م ) نموذجاً للمثقف العربي الذي لم يفـقـد هويته، ولم يتنكر لأصوله، رغم أنه عاش واشتهر وتألق في أمريكا حتى وافاه الأجل فى مدينة نيويورك، لم ينس لحظة أنه ولد فى القدس لأب فلسطينى أمريكى وأم لبنانية، بل لعل إقامته الطويلة في أمريكا هي التي جعلته يعتز بهويته وأصوله، وجعلت معظم مؤلفاته تدور حول الوعي بذاته الإنسانية والثقافية، ودفعته إلى مواجهة حملات التضليل التي تجتاح المجتمعات الغربية ضد كل ماهو عربی وإسلامى، وقد كان بإمكانه أن ينضم لهذه الحملات المعادية ويتكسب من ورائها، مثلما يفعل بعض المشاغبين من المسلمين متدثرين برداء العلمانية والتجديد .
عرف د.ادوارد سعيد بمواقـفـه الصلبـة إزاء سياسات الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية، وتفنيده العلمي للدعايات المغرضة التي يقوم بها المستشرقون واللوبي الصهيوني ضد القضية الفلسطينية، وضد المشرق العربي والإسلامي بصفة عامة، معتمدا في ذلك على قدراته البحثية بعيداً عن لغة الخطابة، ولذلك حظيت مؤلفاته باحترام كبير، حتى لدى من انتقدهم وكشف ضلالهم .
وللدكتور إدوارد سعيد كتب كثيرة في الدفاع عن القضية الفلسطينية، وعن الإسلام والمسلمين والحرية والعدالة في مواجهة القهر والتضليل وخداع الشعوب، ومن هذه المؤلفات كتابه « الاستشراق » الصادر عام 1978، و« سؤال فلسطين » ١٩٧٩، و« تغطية الإسلام » ١٩٨١، و” بعـد السـمـاء الأخـيـرة ” ١٩٨٦، و ” عـتـاب الـضـحـايـا ” ١٩٨٨، و ” الثـقـافـة والإمبريالية ” ١٩٩٣، و” القلم والسيف ” ١٩٩٤، و” صور المثقف ” ١٩٩٤، و ” سياسات الإقصاء ” ١٩٩٥، و” تأملات في المنفى” عام ٢٠٠٠.
ويعد كتاب « تغطية الإسلام » الذى ترجمه إلى العربية د. محمد عنانى من أهم الإصدارات التي ظهرت فيها موهبة د . ادوارد سعيد البحثية وإمكاناته المعلوماتية وموسوعيته الفكرية وشجاعته في الدفاع عما يراه حقا، بالنظر إلى كونه مسيحياً يواجه منظومة طاغية ومتحيزة وظالمة دفاعا عن الإسلام والمسلمين .
في هذا الكتاب « تغطيـة الإسـلام » يكشف د . ادوارد سعيد طبيعة الإعلام الأمريكي وتركيبته المعقدة وآلية عمله، ودوره في تشكيل البنية المعرفية الأمريكية تجاه العالم بصفة عامة، وتجاه الشرق العربي الإسلامي بصفة خاصة، ويؤكد ارتباط الإعلام الأمريكى بالمؤسسات البحثية ومدارس الاستشراق والقوى المسيطرة في المجتمع، والتواطؤ القائم بين هذه الدوائر وأصحاب السلطة في الحكومة أو الشركات عابرة القارات .
واستطاع أن يثبت بمنهج علمى رصين أن الإعلام الأمريكي صنع صورة نمطية سلبية للإسلام وللمسلمين، قائمة على فرضية مغلوطة، مستمدة من العصور الوسطى، صورة سياسية انتقائية وليست معرفية، ويصرعلى احتكار تغطية الإسلام إعلامياً ومعرفياً بهذه الصورة المزيفة، فيقدم للجمهور مايريد له أن يعرف عن الإسلام، ويحجب مالايريد له أن يعرف .
وبناء على هذه الصورة المشوهة تقدم وسائل الإعلام هناك الدين الإسلامى على أنه دين شيطانى مستبد (بفرضه الحجاب على النساء)، غامض عفا عليه الزمن (شنق وقطع الرؤوس ورجم المُخطئ حتى الموت)، مناهض للعلم والفكر (حرق الكتب)، وتقييدي (حظر العلاقات الجنسية خارج نطاق الزواج وتحريم الكحول ولعب القمار)، متطرف ورجعي، وأنه سبب الصراع بين الشعوب، ويُمثل خطرًا على العالم .
يقول د. إدوارد سعيد إن هذه الصورة المزيفة تلبى رغبة الغرب فى أن يرى الشرق الإسلامى مكانا غريبا متخلفا عن ركب الحضارة، يسوده التفكير اللاعقلاني والمتع الحسية والاستغراق في الملذات الجنسية، وهو أمر ضروري للغربيين يعطيهم مبررا أخلاقيا لاستعمار هذه البلاد ونهب ثرواتها واستعباد شعوبها، بزعم نقلهممن البداوة إلى حضارة العصر الحديث.
ورغم هذه الصورة السلبية إلا أن الإسلام يظل بالنسبة للغربيين قوة سياسية جبارة، استطاع قديما أن يتصدى لأطماعهم وينتصر عليهم ويهددهم فى عقر دارهم على مدي قرون طويلة، وهم على يقين بقدرته الكامنة على البعث والنهوض، لأنه لم يستسلم تماما لهم، ولم ينهزم مثل الحضارات الأخرى التى لم تعد مصدر قلق، وهذا ما يفسر انزعاجهم من أية بادرة لنهضة إسلامية حقيقية، وتحالفهم لوأدها، خشية أن يكرر العالم الإسلامي انتصاراته من جديد، فيقدم بديلا حضاريا أكثر إنسانية من الحضارة الغربية .
ويشير د.سعيد إلى أن الذهن الغربي يواجه صعوبة في تفهم القوة التي يمارسها الإسلام، فالإسلام لا يفصل بين الدين والدولة، وإنما هو نظام جامع لا يقتصرعلى العقيدة، بل يشمل العمل والمعاملات، ويفرض قواعد ثابته تحكم الحياة اليومية، وبه دوافع روحية تدفع المسلم إلى التضحية بنفسه وماله وأولاده فى مواجهة الظالم المعتدى حتى يقضى عليه، أو يهديه للإسلام .
يقول د.سعيد إن الإسلام جعل التأمل والتعقل هو ما يُميز الإنسان عن غيره من الكائنات، فى حين أن وسائل الإعلام الغربية تريد أن يكون الشخص غير عقلاني، يقبل الفكرة دون التحقق منها أو التفكير فيها، ولا تريد أن يعرف الناس أن الرجال والنساء متساوون في الإسلام، وأن الإسلام دين معرفة بامتياز، دين مبادئ أخلاقية راسخة وقانون أخلاقي ثابت، وعلى المستوى الاجتماعي يؤيد الإسلام المساواة والأخوة بين الناس جميعا، وسياسيًا يرمز الإسلام إلى الوحدة والحكم الإنساني الرشيد، واقتصاديًا يرمز إلى العدل والإنصاف، فهو دين روحي عميق ودين عملي للغاية .
وينتهى د. سعيد إلى القول بأن منظومة الاحتكار الإعلامى الغربى تستهدف وضع الإسلام في تعارض جذري مع الحضارة الإنسانية خدمة لأغراض سياسية لا علاقة لها بالمعرفة الحقة، لكن العقول الحرة يجب أن تنعتق من هذا الاحتكار لتكتشف أصل اللعبة، وفد حان الوقت لتفكيك هذه المنظومة حتى يتسنى للناس معرفة الإسلام على حقيقته، وقراءة الرواية الأخرى لتاريخه، وهى رواية لايريدها الغرب، بل يخشاها .