أغنيات تهدهدها قبل النوم لتغفو على حلمٍ جديد ، تطير به إلى عالمٍ خَفيفٍ كريشةٍ طائرةٍ في الفضاء ترقصُ معها والنجوم تتمايل مع شَعرها وخَصرها كمهد طفل صغير وتحت قدميّها بساطٌ أحمرٌ طائرٌ سرقتهُ من السندباد حين كان الوَسَنُ يداعب اهدابه وأحلام له تحت الوسادة تنتظر فجراً جديداً ليطير نحوها وذلك الأمير الوسيم الذي أضناهُ البحث حتى يصل لقدميّها التي فقدت نصف جناحيها بحفلٍ مهيب .لم تفارق مخيلتها تلك الحكايات السحرية ، وكلما كبر الجسد ونضج الفكر ظلت تلك الطفلة التي تعشق السحر وبلاد الجان ، وكم من حكاياتٍ سمعتها حول مكانٍ ساحرٍ بنخيله شامخ على شطآنه الرقراقة ، وصبايا سمراواتٍ مليحاتٍ تراقص سيقانهنّ شط العرب بكل دلالٍ وغنج ، بيوتاتهم متراصةٌ على ضفاف تلك الشطآن ، تنساب من نوافذهم أغنيات فرحٍ وعشق ، ميناءٌ وأكداسٌ وأناسٌ ينثرون الفرح برقصاتٍ جمعتهم بساعة السحر ، ومن بقايا الأخشاب من صناعة سفنهم صنعوا لهم طبولاً ، وذلك القارب العشّاريّ النديّ من عرق جباههم يتمايل ويدندن معهم في لحظات المرح بعد التعب .منخفضٌ من ماءٍ وملحٍ كلما شرب منه زائروه طلبوا المزيد .
لم تجد كل هذا بزيارتها الأولى لتلك المدينة ، كان المكان موحشاً بكل تفاصيله ، وجميع تلك التفاصيل تنتهي بالوجع ، كومة من الخراب والتصحر . لم ترغب بزيارة المدينة ولم تخرج من مكان إقامتها الذي وفرّ لها فسحةً من الراحة دون أهل المدينة . تنتظر انتهاء تلك الأيام بفارغ الصبر للهروب منها ومن أوجاعهم . الوجع ليس رحيماً بأهله بل أشد قسوةً عليهم ! . كان الوقت ظهراً حين كُسرَ كعب حذائها ، ارتدته حينها لتعتلي منصةً لطالما تمنتها بمشوارها الأدبي ، ظلت في حيرةٍ من أمرها فكيف باستطاعتها الخروج للمدينة لتبتاع لها حذاءً آخر وسط كل هذه المخاوف في السير بأسواقها وبين أناسها بعد أن طحنتهم الحياة برحاها . رافقت رجلاً من أهل المدينة وكان من المشرفين على راحة الضيوف . سارت بخطىً مسرعةٍ متخوفةً وسط سوقٍ أسماه أهل المدينة “سوق البنات “، ففي هذا السوق كانت الحضارة زاهيةً بأزياء البنات ، من ملابسهن الداخلية إلى الفساتين والأحذية الجميلة ، كانت معروضةً أمام الملأ ، ولم يخش عارضوها سطوة التخلف والجهل .
اضمحلت مخاوفها تماماً حين لاحظت أن أهل المدينة لم تجرحها نظراتهم من رجالها ونسائها ، بل كانت عيونهم لها حارسةً بعد أن لاحظوا تلك التيهة والخوف بعينيها . وصلت لمتجر يبيع الأحذية ، اقتنت حذاءً يتناسب مع فستانها . عرف البائع أنها ضيفةٌ على المدينة فرفض عندها ثمن الحذاء ، توسلته أنه باب رزقه ولن تقبل تلك الهدية دون دفع ثمنها ، لكنه أصر على هديته ، كادت الدموع تخرج من عينيها أمامه في حين نزلت مدراراً أمام أحد الصحفيين حين سألها عن أهل المدينة وأحوالهم . هذه المرة لم يكن اميرا من بلاد الجان بل كان ملكا من عامة الشعب ، لم تغادر المتجر وذلك الشاب الوسيم دون أن تهديه بعض كُتبها ، كم كانت فرحته بالكتب وبالإهداء عظيمة ، وكم كانت فرحتها بفارسٍ أهداها أقداماً طارت بهما على منصة المربد .
تلاشت معها جميع تلك الحكايات الخرافية التي رافقتها منذ الطفولة لتصبح حقيقةً بشابٍّ أسمر وثغرٍ باسمٍ من أرض البصرة الفيحاء بأهلها .
العراق