يقول تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون} ، وقال أيضا {اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْما} ..
الإنسان بباطنه يَعلم بطونَ الحقّ ، وبظاهرِه يَعلم ظهورَه ، وبمعرفتهما يَعلم أوّليتَه وآخِريّتَه ؛ إذ قد تَسَمَّى سبحانه بالأوّل والآخِر والظّاهر والباطن .
ويحتاج مِن حيث كون الطريق إلى ذلك نفسه إلى معرفتها ، وجاء في الأثر (مَن عَرَف نفسَه فقد عَرَف رَبَّه) ، وأيضاً ( أَعْرَفُكُمْ بنفسِه أَعْرَفُكُمْ بربِّه) .
ومعرفة النفس إنَّمَا تَكون بتأييد نادر أو سلوك غالب على يدِ عارف به مؤيَّد مِن الله سبحانه وتعالى ، وقد أَرسَلَ سبحانه مؤيّداً هادياً إليه ودالاًّ عليه صلوات اللَّه وسلامه عليه ، فَبَيَّن لِلخليقة ما أُنْزِلَ إليهم ؛ لِئلاَّ تَضِلّ بعده ، ولِتَنتهج منهاجَه ؛ قال سبحانه {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُون} ..
وقال صلى الله عليه وسلم {أَعْدَى عَدُوٍّ لَكَ نَفْسُكَ الَّتِى بَيْنَ جَنْبَيْك} ..
وقال حضرتُه {رَجَعْنَا مِنَ الْغَزْوَةِ الصُّغْرَى [ يعني قتال المشركين ] إِلَى الْغَزْوَةِ الْكُبْرَى [ يعني جهاد النفس ]} .
وقال سبحانه {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى} .
فالنفس مجبولة على الربوبية والرياسة ، لِذلك قال ذو النون : كُلّ فعلٍ لا يَكون عن أثرٍ فهو هوى النفس .
والإنسان يَحتاج إلى معلِّم برىء مِن العلل يَكون له مرشِداً هادياً أو مؤدِّباً ، يُعِينه على مخالَفة نفسِه الأمّارة ويَكشف لها عيوبَهَا .
قال تعالى {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أَولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا} ؛ بدأ بالسمع وثَنَّى بالبصر لأنّه أَعظَمُ شاهدٍ لِتصديق المسموع منه ، وبه حصول ما به التفكر والاعتبار تنبيهاً على عظمة ذلك ، وإنْ كان المبصِر هو القلب {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُور} ، ثمّ رجع إلى الفؤاد ، وهُمَا معه في عالَم التكليف كالجسد والنفس مع الروح في عالَم الخلافة ، ولا يتمّ لأحدهما ذلك إلاَّ بالآخَرَيْن وإلاَّ نقص بقَدْرِه .
المراد مِن جميع التكليف هو سلامة القلب ، والخطاب موجَّه إليه ؛ قال تعالى {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُم مُّعْرِضُون} .
وقال {لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا} فمحلّ الفقه هو القلب .
وقال {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوب} .
وقال {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُور} .
وقال فيمن عُدِمَت فيه الحياة الدينية {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُون} .
وقال {إِنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيد} .
فمَن لم يكن له قلب سليم فلا أَمَلَ فى الحضور لِفَهْمِ المسموع أو التفهم ؛ فإنّ المراد مِن السمع الفهمُ عن الله .
فمَن أَلقَى السمعَ وهو شهيد فهو عارف بالله ، ومَن كان سمعُه كذلك فعليه التخلق بما يَسمع ، والمبادَرة إلى الانقياد إلى التكليفات فى جميع الأعضاء والقوابل فى ظاهرِه وفى باطنِه ، وفعلُ ما قدر عليه مِن المندوبات ، واجتناب المآثم المنهيّ عنها مِن المحرَّمات ، والتعفف عن المكروهات ، وترك فضلات المباحات .
يقول سبحانه {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُون} ، ومَن عمل بما يَعلم أَورَثَه الله عِلْمَ ما لم يَعلم ، {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدى} .
نَعَم التكليفات – أمراً ونهياً ووجوباً وندباً واستحباباً وكراهةً وتنزيهاً – معلومةٌ كُلُّهَا مِن جهة الشرع ، ومَن كان له قلبٌ فهو صوفىّ ، وليس سماعُه مقصوراً على التنزيل وحده ؛ إذ الوجود له كتاب مسطور فى رَقّ منشور .
فمَن تَفَرَّغَ لِلسماع أَمكَنَه التخلق فتَحَقَّقَ ؛ بعد التخلق يَتَحَقَّق .
{وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِى الْجَاهِلِين} ، فسَلَّمُوا الأمرَ إليه عند اليأس في إرشاد اللاهى ، وأَعرَضوا عنه ولم ينكروه كَمَا أُمِرُوا ؛ اقتداءً بمَن لهم به أسوة حسنة ؛ حيث قيل له : {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين} {فَأَعْرِضْ عَن مَّنْ تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْم} .
إنْ كنتَ مِن الذين ضَرَب الله على آذانِهم عن سماع الحقّ فاسجد واقترِب ، ثمّ انتقِل إلى سماع المراتب الإلهية حتى تَسمع كلامَه القديمَ ، واطلب سِرَّ قوله {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّه} .
التفاضل هنا فى فَهْم المسموع لا فى نفس السماع ، والمقصود التحقق بالتخلق ، والقصد هنا الحثّ على العمل .
واعلم أنّك لا تَزال تَسمع مِن الحقّ تخلقاً حتى يحبَّك فيُسمِعك به ، وهو قُرْبُ النوافل ؛ لِقوله {كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِه} ، وإليه الإشارة في قوله عزّ وجلّ {قَاتِلُوهُمْ يَعُذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُم} ؛ فإنّ معنى النافلة الزيادةُ التى يُرتَقَى بها فى إظهار فضل الذى هو الصفات بظهور أحكام الوحدة في مراتب الكثرة ؛ فيَكون سَمْعَك كَمَا أَخَبَرَ ، ولا تَزال كذلك حتى يَسمع بك وتَسمع به ؛ فيَبقى سبحانه يَسمع نفسَه بنفسِه وأنت موجود فيه مفقود بالحقيقة ، وهو قُرْبُ الفرائض التى تَكون أنت له به سمعاً وبصراً ولساناً ؛ فإنّ معنى الفريضة : ما لا بُدّ منه ، فتَرتَقِى بالكمال الذاتى بإظهار أحكام الوحدة فى الوحدة وعدم المغايَرة فى المغايَرة ، وإليه الإشارة بقوله سبحانه {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} ، وبقوله {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّه} ، وقوله {فَلَمْ تُقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُم} ، وقوله {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} ؛ تركيبة الجملة {وَمَا رَمَيْت} نفى {إِذْ رَمَيْت} إثبات {وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} إقرار لِلحقيقة .
واعلم أنّ مَن تَحَقَّق بالسماع مِن وراء حجاب فتَخَلَّق بقَدْرِ ما سَمِع سَمِع على الكشف بغير واسطة ، فإنْ تَخَلَّق به تَحَقَّق به فخَرَج عن حدّ البشرية ، وهنا قال صلى الله عليه وسلم {إِنِّى لَسْتُ كَأَحَدِكُمْ ؛ إِنِّى أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّى يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِى} .
وتكليمُ اللهِ البَشَرَ في ثلاثة أنماط ؛ كَمَا قال سبحانه {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا} ، وقال {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إلَىَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِد} ؛ فالكلّ وحى ، ولكنّ بعضه بلا واسطة عند خروجه عن حدّ البشرية ، إلاَّ أنّك إنْ كنتَ أنت السامع لم تَحصل على المشاهَدة الذاتية حتى تكون أنت الْمُسْمِع ؛ فمشاهَدة الذات لا تتمّ مع المناجاة ، وبعضه بواسطة عند الرجوع إلى البشرية ، ولا تَزال هكذا حتى تَفنَى عن نفس السماع ، وتَبقَى مشاهِداً لِلحقّ يُسمِع نفسَه بنفسِه ؛ فإنّ مَن تَحَقَّق بالإنفاق حتى يَسمع {وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيه} سَمِع قولَه {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا} وقولَه {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} فتَحَقَّق به .
واللَّه يقول الحقَّ ، وهو يَهدِى السّبيل .