وُلِد الإمام الغزالىّ الشّافعىّ الأشعرىّ الصّوفىّ فى الطابران مِن أعمال طوس بإيران عام 450 هـ، وانتقل إلى الرفيق الأعلى عام 505 هـ وعمره 55 سَنَةً ..
عُرِف كأحد مؤسسى المدرسة الأشعرية فى عِلم الكلام، وأحد أصولِها الثلاثة بعد أبى الحسن الأشعرىّ مع الإمام الباقلاّنىّ والإمام الجوينىّ.
كان أبوه يَعمل فى غزل الصوف وبيعِه فى طوس، ولم يكن له أبناء غير أبى حامد وأخيه أحمد الأصغر منه سِنّاً.
كان أبوه مائلاً لِلصوفية، لا يأكل إلّا
مِن كسبِ يدِه، وكان يَحضر مَجالسَ الفقراء”الصوفية” ويَقوم على خدمتِهم ويُنفِق ما أَمكَنَه إنفاقُه مِن رزقِه غير الوفير عليهم، وكان يدعو اللهَ أنْ يرزقه ابناً ويَجعله فقيراً ” أي يتخلف بأخلاق الصوفية”؛ فاستجاب له الحقّ سبحانه فرزقه إبنَه أبا حامد وأخاه أحمدَ الذى يَصغره سِنّاً، وصار واعظاً مؤثِّراً فى الكلام.
لَمَّا قربت وفاة أبيهما وَصَّى بهما إلى صديقاّ له متصوِّف، وقال له:” إنّ لى تأسفاً عظيماً على تعلمى الخطَّ، وأشتهى أنْ أستدرك ما فاتنى فى ولدَىّ هذين، ولا عليك أنْ تنفق فى ذلك جميعَ ما أخلفه لهم “، فلَمَّا مات أَقبَل الصّوفىّ على تعليمهما حتى نفد ما خَلَّفَه لهما أبوهما مِن مال ولم يستطع الإنفاقَ عليهما، عند ذلك قال لهما:” إعلما أنِّى أنفقتُ عليكما ما كان لكما، وأنا رجل مِن الفقر والتجريد بحيث لا مال لى أواسيكما به، وأَصلَحُ ما أرى لكما أنْ تلجئا إلى مدرسة كأنكما من طلبة العِلم؛ فيَحصل لكما قوت يعِينكما على وقتِكما “، ففَعَلاَ ذلك، وكان هو السبب فى علوّ درجتِهما ..
كان الغزالىّ يحكى هذا ويقول: طلبنا العِلمَ لِغير اللّه ؛ فأَبَى أنْ يَكون إلاَّ لله.
ابتدأ طلبُه لِلعِلم فى صباه عام 465 هـ؛ فأخذ الفقهَ فى طوس على يد أحمد الرّاذكانىّ، ثمّ رحل إلى جرجان وطلب العِلمَ على يد الشيخ إسماعيل بن مسعدة الإسماعيلي، وقد عَلَّق عليه التعليقة؛ أىْ دَوَّن علومَه دون حفظ وتسميع، وفى طريق عودتِه مِن جرجان إلى طوس واجهَه قُطّاع طُرُق؛ حيث يروى الغزالىّ قائلاً: قُطِعَت علينا الطريق، وأَخَذ العيّارون جميعَ ما معى ومضوا، فتبعتُهم، فالتفت إلىّ مقدَّمهم وقال:” ارجع يا فتى – ويحك – وإلاَّ هلكتَ ” فقلتُ له:” أسألك بالذى ترجو السلامةَ منه أنْ تَرُدّ عَلَىّ تعليقتى فقط؛ فما هى بشئ تَنتفعون به “، فقال لى:” وما هى تعليقتُك؟! ” فقلتُ:” كتبٌ فى تلك المخلاة ما هاجرتُ إلا لِسماعِها وكتابتِها ومعرفةِ عِلمِها “، فضحك وقال:” كيف تدَّعى أنَّك عرفتَ عِلمَها وقد أخذناها منك فتجرّدتَ مِن معرفتها وبقيتَ بِلا عِلم؟! “، ثم أمر بعضَ أصحابه فسَلَّم إلىّ المخلاة ..
بعد ذلك قَرَّر الغزالىّ الإشتغالَ بهذه التعليقة وعَكَف عليها ثلاثَ سنوات (من 470 هـ إلى 473 هـ) حتى حَفِظَهَا، وكان يقول: فكان عِلمى معى؛ إنْ كنتُ فى البيت كان معى العِلم، وإنْ كنتُ فى السوق كان العِلم في السوق.
وفى عام 473 هـ رحل الغزالىّ إلى نيسابور، ولازمَ إمامَ الحرمين أبا المعالي الجوينىّ إمام الشافعية فى وقتِه ورئيس المدرسة النظامية، فدرس عليه مختلفَ العلوم فى الفقه الشّافعىّ وفقه الخلاف وأصول الفقه وعِلم الكلام والمنطق والفلسفة، جَدّ واجتهَد حتى بَرَع وأَحكَمَ كُلَّ تلك العلوم، ووصفه شيخُه أبو المعالى الجوينىّ بأنّه بحر مغدِق، وكان الجوينىّ يُظهِر اعتزازَه بالغزالىّ حتى جعله مساعِداً له فى التدريس.
عندما أَلَّف الغزالىّ كتابَه (المنخول فى عِلم الأصول) قال له الجوينىّ: دفنتَنى وأنَا حىّ!! هلّا صبرتَ حتى أموت؟!
قَبل أنْ يَستقِرّ أمرُ الغزالىّ على التصوف مَرّ بمراحل كثيرة فى حياته الفكرية كَمَا يرويها هو نفسُه فى كتابه (المنقِذ مِن الضلال)؛ إبتدأ بمرحلة الشّكّ بالشكل اللاّ إرادىّ والتى شَكَّك خلالها فى الحواسّ والعقل، وفى قدرتِهما على تحصيل العِلم اليقينىّ، ودخل فى مرحلة مِن السفسطة غير المنطقية حتى شُفِىَ منها بعد مدة شهرين تقريباً؛ لِيَتفرغ بعدها لِدراسة الأفكار والمعتقَدات السائدة فى وقتِه ..
يقول: ولَمَّا شفانى الله مِن هذا المرض [السفسطة] بفضلِه وسعةِ جوده أحضرتُ أصناف الطالبين عندى فى أربع فِرَق:
أولها المتكلمون، وهُمْ يدَّعون أنهم أهل الرأى والنظر.
وثانيها الباطنية، وهم يزعمون أنهم أصحاب التعليم والمخصوصون بالاقتباس مِن الإمام المعصوم.
وثالثها الفلاسفة، وهم يزعمون أنهم أهل المنطق والبرهان.
ورابعها الصوفية، وهم يدَّعون أنهم خواصّ الحضرة وأهل المشاهَدة والمكاشَفة.
يتابع ويقول: فابتدرتُ لِسلوك هذه الطُّرُق واستقصاء ما عند هذه الفِرَق؛ مبتدِئاً بعِلم الكلام، ومثنِّياً بطريق الفلسفة، ومثلِّثاً بتعلم الباطنية، ومربِّعاً بطريق الصوفية.
عكف على دراسة عِلم الكلام حتى أَتقَنه وصار أحدَ كبار علمائه، وصَنَّف فيه عدةَ كتب أَصبحَت مرجعاً فى عِلم الكلام فيما بعدُ، مِثل كتاب (الاقتصاد فى الاعتقاد)، إلاَّ أنّه لم يجد ضالّتَه المنشودةَ فى عِلم الكلام، ورآه غيرَ وافٍ بمقصودِه ..
يقول عن نفسه: فلم يكن عِلمُ الكلام فى حقى كافياً، ولا لِدائى الذى كنتُ أشكوه شافياً.
بعد ذلك تَوَجَّه لَعِلم الفلسفة ودرسها وفهمها ثمّ نقدها بشدة فى كتابه (تهافت الفلاسفة).
ثمّ درس بعدها الباطنيةَ فَرَدّ عليهم وهاجمهم؛ لِيستقِرّ أمرُه على عِلم التصوف.
بعد تلك المراحل بدأ اهتمام الغزالىّ يتجه نحو علوم التصوف، فابتدأ بمطالَعة كتبِهم؛ مِثل: (قوت القلوب) لأبى طالب المكّىّ، وكُتُب الحارث المحاسبىّ، والمتفرقات المأثورة عن الجنيد وأبى بكر الشّبلىّ وأبى يزيد البسطامىّ، كَمَا كان يَحضر مجالسَ الشيخ الفضل بن محمد الفارمذىّ الصّوفىّ والذى أَخَذ عنه الطريق، تأثر بهم تأثراً كبيراً حتى أدَّى به الأمر لِتركِه لِلتدريس فى المدرسة النظامية فى بغداد واعتزاله الناسَ وسفره لمدة 11 سَنَة (استأذن مِن الخليفة بحجة السفر لِلحجّ) تَنَقَّل خلالها بين دمشق والقدس والخليل ومكة المكرمة والمدينة المنورة، وتكلم فى العلوم فى المسجد الكبير بحلب؛ فقال الناس:” لا يقول هذا الكلامَ إلاَّ الإمام الغزالىّ، فلَمَّا عرفوه هرب منهم ..
وكتب خلال تلك المدة كتابَه المشهور فى التصوف (إحياء علوم الدين).
وكانت نتيجة رحلتِه الطويلة تلك أنْ قال: وأمَّا الخلوة ففائدتها دفعُ الشواغل وضبط السمع والبصر؛ فإنهما دهليز القلب، والقلب فى حُكْم حوض تَنصبّ إليه مياه كريهة كدرة قذرة مِن أنهار الحواسّ، ومقصود الرياضة تفريغ الحوض مِن تلك المياه ومِن الطين الحاصل منها لِيتفجر أصلُ الحوض فيخرج منه الماء النظيف الطاهر، وكيف يصحّ له أنْ ينزح الماء مِن الحوض والأنهار مفتوحة إليه فيتجدد في كُلّ حال أكثر مما يَنقص؟! فلا بُدّ مِن ضبط الحواسّ إلاَّ عن قدر الضرورة، وليس يتمّ ذلك إلاَّ بالخلوة.
عندما يَسلم مِن عللِه وأمراضِه وتعلقاتِه ومشاغلِه وخواطرِ الشيطان ووساوسِه يستحقّ نعيمَ قُربِه ويستعدّ لِتلقِّى العلوم اللدنية والأسرار الربانية والنفحات النورانية.
قال الغزالىّ أيضاً: وانكشفَت لى فى أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها، والقَدر الذى أَذكره لِيُنتفَع به أنِّى علمتُ يقيناً أنّ الصوفية هم السالكون لِطريق الله تعالى خاصّةً، وأنّ سيرتهم أَحسَنُ السِّير، وطريقهم أَصوَبُ الطرق، وأخلاقهم أَزكَى الأخلاق، بل لو جُمِع عقل العقلاء وحكمةُ الحكماء وعِلمُ الواقفين على أسرار الشرع مِن العلماء لِيُغَيِّروا شيئاً مِن سِيَرِهم وأخلاقِهم ويُبَدِّلوه بما هو خير منه لم يجدوا إليه سبيلاً؛ فإنّ جميع حركاتهم وسكناتهم فى ظاهرهم وباطنهم مقتبَسة مِن نور مشكاة النُّبُوَّة، وليس وراء نور النُّبُوَّة على وجه الأرض نور يُستضاء به.
- مِن درر الإمام أبى حامد الغزالىّ رضى الله عنه:
- شفاء العالَم مِن سقامِه مرتبِط بعودة الإيمان إلى القلوب.
- السعادة كُلّها فى أن يَملك الرجلُ نفسَه، والشقاوة كُلّهَا فى أنْ تَملكه نفسُه.
- يجب على العبد أنْ يَتحفظ فى العمل مِن عشرة أشياء: النفاق، والرياء، والتخليط، والمنّ، والأذى، والندامة، والعُجب، والحسرة، والتهاون،وخوف ملامة الناس.
- اعلم أنّ السعادة كُلّها والباقيات الصالحات أجمعها فى شيئين: سلامة القلب وطهارته مِن غير الله تعالى؛ لِقوله {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم}، وامتلاء القلب بمعرفة الله تعالى.
- أدبُ المؤمِن بين يدى الله تعالى يَكون بجمع الهمّ وسكون الجوارح وقلة الاعتراض وحُسْن الخُلُق ودوام الذِّكْر وتنزيه الفكر وسكون القلب وتعظيم الرّبّ وإخلاص العمل وصِدق القول.
- اعلم أنّ كُلّ مَن طلب كيمياءَ السعادة مِن غيرِ حضرة النُّبُوَّة فقد أخطأ الطريق.
- اعلم أن مفتاح معرفة الله تعالى هو معرفة النفس؛ قال سبحانه {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِى الآفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيد}، وجاء فى الأثر: (مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّه)، قال تعالى {فَإِذَا رَكِبُوا فِى الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُون} قيل: معناه أنهم يقولون: لولا استواء الريح لَمَا نجونا.
- مَن أَلزَمَ نفسَه آدابَ السُّنَّة نَوَّر اللهُ قلبَه بنور المعرفة، ومَن حُرِم الأدب حُرِم جوامعَ الخيرات.
- أَطِبْ مطعمَك ومشربَك وما عليك أنْ لا تَقوم الليلَ ولا تصوم النهار.
- العِلم حياة القلوب مِن العمى ونور الأبصار مِن الظُّلَم وقوة الأبدان من الضَّعف، يَبلغ به العبدُ منازلَ الأبرار والدرجات العلى، والتفكر فيه يعدل بالصيام، ومدارسته بالقيام، به يطاع الله عزّ وجلّ، وبه يُعبَد، وبه يُوَحَّد، وبه يُمَجَّد، وبه يُتورَّع، وبه تُوصَل الأرحام، وبه يُعرَف الحلال والحرام، وهو إمام والعمل تابعُه، يُلهَمه السعداء ويُحرَمه الأشقياء.
- لا تكن من الأعمال مفلِساً، ولا مِن الأحوال خالياً، وتَيَقَّنْ أنّ العِلم المجرَّد لا يأخذ باليد.
- العِلم بلا عملٍ جنون، والعمل بغيرِ عِلمٍ لا يَكون.
- اعلم أنّ اللسان المطلَق والقلب المطبق المملوء بالغفلة والشهوة علاَمة الشقاوة، فإذَا لم تَقتل نفسَك بصدق المجاهَدة فلن يحيا قلبُك بأنوار المعرفة.
- واجب على كل كُلِّ عالِمٍ يَتصدى لدعوة الخلق إلى الله تعالى أنْ يراعى مِن ظاهرِه ما لا يوجِب نفرةَ الناس عنه.
- إذَا أَحَبّ اللهُ عبداً استعمَله فى الأوقات الفاضلة بفضائل الأعمال، وإذَا مَقَتَه استعمَله فى الأوقات الفاضلة بسيئ الأعمال.
- النفس إذَا لم تُمنَع بعضَ المباحات طَمِعَت فى المحظورات.
- الكِبر والعُجب داءان مهلِكان، والمتكبِّر والمعجب سقيمان مريضان، وهُمَا عند الله ممقوتان بغيضان.
- قال الفضيل وقد سُئِل عن التواضع ما هو؟ فقال: أنْ تَخضع لِلْحَقّ وتَنقاد له، ولو سمعتَه مِن صبىّ قَبِلْتَه، ولو سمعتَه مِن أجهل الناس قَبِلْتَه.
- أَشرَفُ الصناعات بعد النُّبُوَّة: إفادة العِلم، وتهذيب نفوس الناس عن الأخلاق المذمومة المهلِكة، وإرشادهم إلى الأخلاق المحمودة المسعِدة.
- إذَا فَوَّضْتَ أمرَك لله سبحانه وسألتَه أنْ يَختار لك ماهو صلاحُك لم تَلْقَ إلاَّ الخير والسداد، ولا تقع إلاَّ على الصلاح.
- وَعَدَك الله وضَمِن لك رزقَك وتَكَفَّل به بل وأَقْسَمَ عليه , وأنت لا تطمئن بوعدِه ولا تَسكن إلى قولِه وضمانِه ولا تَنظر إلى قَسَمِه؛ بل يَضطرب قلبُك ويَهتمّ!!
- أَشَدُّ الناس حماقةً أقواهم اعتقاداً فى فضلِ نفسِه، وأَثبَتُ الناس عقلاً أَشَدُّهم اتهاماً لِنفسِه.
- مَن لم يَشُكّ لم يَنظر، ومَن لم يَنظر لم يُبصِر، ومَن لم يُبصِر بقىَ فى متاهات العمى ,
رحم اللهُ الإمامَ أبا حامد الغزالىَّ، وجزاه خيرَ الجزاء.
والله يَقول الحقَّ، وهو يَهدى السبيل.