قل ماشئت فى سلبيات مواقع التواصل الاجتماعى المستحدثة على شبكة الإنترنت، لكنك لا تستطيع أن تنكر أنها أشاعت المعرفة، وجعلت المعلومات متاحة لكل الناس، فى كل زمان ومكان، وهذا إنجاز تاريخى عمل من أجله الإنسان على مدى عقود طويلة، وسجل نجاحات تصاعدية، توجت بهذه الوسائل التى جعلت العالم عند أطراف أصابعنا، وكسرت حواجز الرقابة والسرية والاحتكار والأحادية، فصرنا قادرين على أن نعرف ما يدور فى الغرف المغلقة، وما يحدث على الجانب الآخر من النهر، ونسمع ما يرضينا وما يزعجنا، ونواجه ما يعجبنا وما لا يعجبنا .
وليس من المبالغة الاعتراف بأن هذه الوسائل خلقت عالما جديدا فى كل شيء، تتعدد فيه الأصوات والآراء والتوجهات والرؤى، بل تتعدد فيه وجوه الحقيقة الواحدة، بحيث يصعب ادعاء الإجماع فى أى شيئ على ظهر الأرض، حتى ولو كانت ملكة بريطانيا التسعينية الوديعة، طيبة القلب، التى تملك ولا تحكم ولا تتحكم، ومن الصعب تصور أن يكون هناك من يبغضها فى يوم وفاتها، ويقول فيها غير ما يقول الباكون عليها .
لكن هذا ما كشفت عنه وسائل التواصل الاجتماعى، ففى الوقت الذى كان العالم يتحدث عن ” جنازة القرن ” المهيبة للملكة، وكانت الدموع تنهمر ممن يقفون فى شوارع لندن لوداع جثمانها، كان هناك فى عالمنا العربى من يعير عن غضبه من الملكة الراحلة التى لم تنظر بعين العطف يوما ما إلى مأساة شعب فلسطين والمجازر التى ارتكبت فى حقه على مدى العقود السبعة التى كانت تجلس فيها على عرش بريطانيا، ولو على المستوى الإنسانى والاجتماعى والحضارى وليس بالضرورة على المستوى السياسى، بينما كانت بريطانيا تاريخيا هى الداعم الأول لدولة إسرائيل على كافة المستويات، قبل وبعد وعد بلفور المشئوم .
وفى عهد الملكة الذى بدأ فى فبراير 1952 شاركت بريطانيا مع فرنسا وإسرائيل فى العدوان الثلاثى على مصر عام 1956، وشاركت فى غزو العراق عام 2003، ولم يصدر عن الملكة ما يشى برفض الحروب الاستعمارية ضد الشعوب الأخرى، بينما كان لولى عهدها الأمير تشارلز ــ الملك تشارلز الثالث حاليا ـ موقف واضح ضد غزو العراق، ودخل فى معارضة علنية مع رئيس الحكومة البريطانية آنذاك تونى بلير .
وكشفت تقارير شبكة ” بى بى سى ” البريطانية أن العديد من المستعمرات البريطانية السابقة عبرت عن حزنها لوفاة الملكة التى تحظى بتقدير كبير، لكن هذا التقدير لا يحظى بإجماع مطلق، فبالنسبة للبعض أعادت وفاة الملكة ذكريات التاريخ الدموى للحكم الاستعمارى، بما فى ذلك الفظائع التى ارتكبت ضد السكان الأصليين، وسرقة التماثيل والمصنوعات اليدوية من دول غرب إفريقيا، والذهب والماس من جنوب أفريقيا والهند، بالإضافة إلى ممارسات العبودية والقمع .
ووسط تزاحم عبارات الثناءعلى الملكة، وبيانات التعازى التى صدرت من زعماء العالم، كانت هناك أصوات تعيد إلى الذاكرة الماضى الاستعمارى لبريطانيا، وتهاجم ” الإرث الدموى ” للملكة التى لم تعتذر عن هذا الماضى البغيض، ولم تبد استعدادا لإعادة الحقوق المسلوبة إلى أصحابها، وخرجت بيانات رسمية فى جنوب أفريقيا ـ على سبيل المثال ـ يقول أصحابها إنهم لن يشاركوا فى ” مهرجان الحزن والحداد ” على ملكة لم تعترف مطلقا بالجرائم التى ارتكبتها بلادها وعائلتها فى جميع أنحاء العالم، بل كانت فى الواقع حاملة لراية الفظائع، وموتها تذكير بفترة مأساوية للغاية .
ونشرت بروفيسورة أمريكية من أصول نيجيرية تدعى ” أوجو أنيا ” تغريدة على تويتر، قالت فيها : ” لا تتوقعوا منى التعبير عن أى شيء فى هذه المناسبة سوى الازدراء بالملكية التى أشرفت على حكومة كانت راعية للإبادة الجماعية التى قتلت وشردت نصف عائلتى “.
وظهرت منشورات أخرى تطالب باستعادة ” الماسة المسروقة ” من جنوب أفريقيا، و هى أكبر ماسة تزين الصولجان البريطانى الذى يحمله الملوك أثناء تتويجهم، ويقال إن هذه الماسة كانت حكومة جنوب أفريقيا العنصرية قد أهدتها إلى العائلة المالكة البريطانية كرمز للولاء، غير أن الرأى السائد عبر وسائل التواصل الاجتماعى أن أصحابها الحقيقيين هم شعب جنوب أفريقيا، وقال أحد مستخدمى تويتر إن الماسة التى تبلغ قيمتها 400 مليون دولار يمكن أن تغطى تكلفة التعليم العالى لـ 75 ألف طالب من جنوب أفريقيا .
وفى الهند علت أصوات مماثلة، حيث بدأ هاشتاج ” كوهينور” يتداول بكثرة، فى إشارة إلى أكبر ماسة فى التاج البريطانى، ويطالب الهاشتاج باستعادة هذه الماسة من التاج قبل أن ترتديه ” الملكة القرينة ” كاميلا .
ويقول منتقدون آخرون إنه كان على الملكة استخدام سلطتها ونفوذها لضمان إعادة رفات الأبطال الذين حاربوا الحكم الاستعمارى البريطانى .