كان الإمام علي بن أبي طالب أوّلَ مَن أسلم مِن الأطفال ، ولم يَسجد لِصنم قَطّ ، وكان غزيرَ العِلم .
شهد حضرتُه المشاهدَ كُلَّهَا إلاَّ تبوك .
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عنه يوم خيبر {لأعطينَّ الرايةَ غداً لِرَجُل يَفتح الله على يديه ، يحِبّ اللهَ ورسولَه ، ويحبّه اللهُ ورسولُه} ، فبات الناسُ ليلتَهم يَدُوكون ويختلفون : أيّهم يُعطاها ؟ فلَمّا أصبحوا غدوا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كُلّهم يرجو أنْ يُعطاها ، فقال حضرتُه {أين علِىّ بن أبى طالب ؟} ، فقيل :” يا رسول الله .. يشتكى عينيه ” ، قال {فأَرسِلوا إليه} ، فأُتِى به ، فبصق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فى عينيه ودَعَا له ، فبرئ حتى كأنْ لم يَكُنْ به وجع ، فأعطاه الراية ..
قال علِىّ رضى الله عنه :” يا رسول الله .. أقاتِلهم حتى يَكونوا مِثلَنَا ؟ ” فقال {انفُذ على رِسلِك حتَّى تَنْزِلَ بساحَتِهِمْ ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إلى الإسلام ، وأَخْبِرْهُمْ بما يَجِبُ عليهم مِن حَقِّ اللَّهِ تعالى فِيهِ ؛ فَواللَّهِ لَأَنْ يَهْدِىَ اللَّهُ بكَ رَجُلاً واحِداً خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَم} .
وعن سعد بن أبى وقاص – رضى الله عنه – قال : خلف رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – عليّاً فى غزوة تبوك ، فقال :” يا رسول الله .. تخلفنى فى النساء والصبيان ؟! ” قال {أمَا تَرضَى أنْ تَكون منى بمنزلة هارون مِن موسى غيرَ أنّه لا نَبِىَّ بعدى ؟} .
وفى صحيح مسلم : قال علِىّ رضى الله عنه : واللهِ إنّ لَمِمَّا عَهِد إلىّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنّه لا يبغضنى إلاَّ منافِق ، ولا يحبنى إلاَّ مؤمِن .
قال معاوية لِضرار بن ضمرة :” صِفْ لى عليّاً ” فأجابه :” أوَ تعفينى ؟! ” فقال :” بل تصفه ” ، فأجابه مرّةً أخرى :” أوَ تعفيني ؟! ” فقال :” لا أعفيك ” ، فقال ضرار : أمَّا إذا كان لا بدّ فإنّه – واللهِ – كان بعيدَ المدى شديدَ القُوَى ، يقول فصلاً ويَحكم عدلاً ، يتفجر العِلم مِن جوانبه وتنطق الحكمة مِن نواحيه ، يَستوحش مِن الدنيا وزهرتها ويَستأنس بالليل وظلمتِه ، كان – واللهِ – غزيرَ الدمعة طويلَ الفكرة ، يقلِّب كفيه ويخاطِب نفسَه ، يُعجبه مِن اللباس ما خَشُن ، ومِن الطعام ما كان جافّاً خشناً ، يعظِّم أهلَ الدين ويحبّ المساكين ، لا يطمع القوىّ فى باطلِه ، ولا ييأس الضعيف مِن عدله ، فأَشهَد بالله لقد رأيتُه وقد أَرخَى الليل ظلمتَه وقد مَثُل فى محرابه قابضاً على لحيته يتململ تململَ السليم ويبكى بكاءَ الحزين ويقول :” يا دنيا .. أبى تعرضتِ ؟! أَمْ إلىّ تشوقتِ ؟! غُرِّى غيري ؛ قد بتَتُّكِ ثلاثاً لا رجعةَ لى فيكِ ؛ فعمركِ قصير وعيشكِ حقير وخطركِ كبير .. آهٍ مِن قلة الزاد وبُعد السفر ووحشة الطريق ..
فذرفَت دموع معاوية على لحيتِه ثم قال : رحم الله أبا الحسن ؛ كان – واللهِ – كذلك .
قال الأرقم : رأيتُ عليّاً يبيع سيفاً له فى السوق ويقول : مَن يشترى هذا السيف ؛ فوالذى فَلَق الحبّةَ لَطالما كشفتُ به الكربَ عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو كان عندى ثَمَنُ إزار ما بعتُه .
- مِن كلامه رضى الله عنه :
- ليس الخير أنْ يَكثر مالك وولدك ، ولكن الخير أنْ يَكثر عملك ويَعظم عِلمك ، ولا خيرَ فى الدنيا إلاَّ لأحد رَجُلَيْن : رجل أذنبَ ذنوباً فهو يَتدراك ذلك بتوبة ، أو رجل يسارِع فى الخيرات .
- لا يَقِلّ عمل مع تقوى ؛ وكيف يَقِلّ ما يُتقبَّل ؟!
- إنّ أَخوفَ ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل ؛ فأمَّا اتباع الهوى فيصدّ عن الحقّ ، وأمَّا طول الأمل فيُنسِى الآخرةَ .. ألاَ وإنّ الدنيا قد ارتحلَت مدبِرةً .. ألاَ وإنّ الآخرة قد ارتحلَت مقبِلةً ، ولِكُلّ واحد منهما بنون ؛ فكونوا مِن أبناء الآخرة ولا تَكونوا مِن أبناء الدنيا ؛ فإنّ اليوم عملٌ ولا حساب ، وغداً حساب ولا عمل .
- اعلموا أنّكم ميتون ومبعوثون بعد الموت وموقوفون على أعمالكم ومجزيّون بها ؛ فلا تغرنكم الحياة الدنيا ؛ فإنّها دار بالبلاء محفوفة ، وبالفَناء معروفة ، وبالغدر موصوفة .. كُلّ ما فيها إلى زوال ، وهى بين أهلها دول وسجال ، واعلموا أنكم وما أنتم فيه مِن زهرة الدنيا على سبيلِ مَن مضى ممن كان أَطوَلَ أعماراً وأَعمَرَ دياراً ؛ فأصبحَت أجسادهم باليةً وديارهم خاليةً فى القبور التى محملها مقترِب واسكنها مغترِب ، وقد طحنهم بكلكله البلى وأكلتهم الجنادل والثرى ، وكان قد صرتم إلى ما صاروا إليه من الوحدة والبلى فى دار الموتى ، فكيف بكم لو تناهت الأمور وبُعثِرَت القبور وحُصِّل ما فى الصدور ؟! هنالك تُجزَى كل نفس بما كَسَبَت .
- ألاَ إنّ الفقيه كُلّ الفقيه الذى لا يُقنِط الناسَ مِن رحمة الله ، ولا يؤمِّنهم مِن عذاب الله ، ولا يُرَخِّص لهم فى معاصى الله ، ولا يَدَع القرآنَ رغبةً عنه إلى غيره ، ولا خيرَ فى عبادة لا عِلْمَ فيها ، ولا خيرَ فى عِلْم لا فَهْمَ فيه ، ولا خيرَ فى قراءة لا تَدَبُّرَ فيها .
- يا أيها الناس .. خذوا عنى هذه الكلمات ؛ فلو ركبتم المطىّ حتى تنضوها ما أصبتم مثلها : لا يرجونّ عبد إلاَّ رَبَّه ، ولا يخافنَّ إلاَّ ذنبَه ، ولا يستحيى إذا لم يَعلم أنْ يَتعلم ، ولا يستحيى إذا سُئِل عَمَّا لا يَعلم أنْ يقول : الله أَعلَم ، واعلموا أنّ الصبر مِن الإيمان بمنزلة الرأس مِن الجسد ؛ ولا خيرَ فى جسد لا رأسَ له .
- القلوب أوعية ، وخيرها أوعاها لِلخير .
- الناس ثلاثة : فعالِم ربّانىّ ، ومتعلِّم على سبيل النجاة ، وهمج رعاع أتباع كُلّ ناعق ؛ يَميلون مع كُلّ ريح ، لم يستضيئوا بنور العِلم ، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق .
- العِلم خير مِن المال .. العِلم يَحرسك ، وأنت تَحرس المال .. العِلم يزكو مع العمل ، والمال تُنقِصه النفقة .. العِلم حاكم ، والمال محكوم عليه .. صنيع المال يزول بزواله ، ومحبة العالِم دين يدان بها .. مات خُزّان المال وهُمْ أحياء ، والعلماء باقون ما بقى الدهر ؛ أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم فى القلوب موجودة .. هجم بهم العِلم على حقيقة الأمر ؛ فاستلانوا ما استوعَرَ منه المترَفون ، وأَنِسوا بما استوحَش منه الجاهلون ، صَحِبوا الدنيا بأبدان أرواحُها معلَّقة فى المحلّ الأعلى .. آهِ شوقاً إلى رؤيتهم .
- لقد رأيتُ أصحابَ محمد – صلى الله عليهم وسلم – فما أرى اليومَ شيئاً يشبِههم ؛ لقد كانوا يصبحون صُفراً شُعثاً غُبراً , بين أيديهم كأمثال ركب المغزى , قد باتوا لله سجّداً وقياماً , يَتْلُون كتابَ الله تعالى ، يراوحِون بين جباههم وأقدامهم , فإذا أصبَحوا فذكروا اللهَ تعالى مادُوا كما يَمِيد الشجر فى يوم الريح وهملت أعينهم حتى تبلّ ثيابهم ، واللهِ لكأنّ القوم باتوا غافلين .
وعن ابن عباس – رضى الله عنهما – قال : ما انتفعتُ بكلام أحد بعد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – انتفاعى بكِتاب كَتَبه إلىّ علِىّ بن أبى طالب ؛ قال فيه : أمَّا بعدُ .. فإنّ المرء يسوءه فوتُ ما لم يكن لِيدركه ، ويَسُرّه إدراكُ ما لم يكن لِيَفوته ؛ فليكن سرورك بما نلتَ مِن أمر آخرتك ، وليكن أسفُك على ما فاتك منها ، وما نلتَ مِن دنياك فلا تكثرنّ به فرحاً ، وما فاتك منها فلا تأسَ عليه حزناً ، وليكن هَمُّك فيما بعد الموت .
وعن علِىّ – رضى الله عنه – أنّه شَيَّع جنازةً ، فلَمّا وُضِعَت فى لحدها عَجّ أهلها وبكوا ، فقال : ما يبكون ؟! أمَا – واللهِ – لو عاينوا ما عاين ميتهم لأذهلتهم معاينتُهم عن ميتهم ، وإنّ له [ أىْ لِلموت ] فيهم لَعودةً ثم عودةً حتى لا يُبقِى منهم أحداً ..
ثم قام فقال : أوصيكم – عبادَ الله – بتقوى الله الذى ضَرَب لكم الأمثالَ ، ووَقَّت لكم الآجالَ ، وجَعَل لكم أسماعاً تعى ما عناها .. إنّ الله لم يخلقكم عبثاً ، ولم يَضرب عنكم الذِّكْرَ صفحاً ؛ بل أَكرمَكم بالنعم السوابغ وأَرصَدَ لكم الجزاء ، فاتقوا الله عبادَ الله ، وجِدّوا فى الطلب ، وبادِروا بالعمل قبل هادم اللذات ؛ فإنّ الدنيا لا يدوم نعيمها ، ولا يؤمَن فجيعها ، غرور حائل وسناد مائل .. كأن قد علقتكم مخالب المنية ، وضُمِمتم بيتَ التراب ، ودهمتكم مفظعات الأمور بنفخة الصُّور ؛ كُلّ نفس معها سائق يَسوقها لِمحشرها ، وشاهِد يَشهد عليها بعملها ، {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِىءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُون} .
اللهم اجعلنا مِن الذين يَستمعون القولَ فيَتّبعون أَحسَنَه .
والله يَقول الحقَّ، وهو يَهدى السبيل.