لما انتهى فتح حصن باب اليون أراد عمرو بن العاص التحول من مكانه ذلك ، وأمر بالرحيل لاستكمال فتح مصر، فحدثت حادثة واجهها عمرو بن العاص بسلوك إسلامي رفيع يدل على عمق تخلقه بمكارم الأخلاق وقد ذكر ذلك ابن عبد الحكم رحمه الله حيث يقول : لما فتح عمرو بن العاص الحصن، وهو المسمى الآن بقصر الشمع فكان فسطاطه (بيت من شعر) قبالة الحصن، فلما أراد التوجه إلى الإسكندرية أمر بنزع الفسطاط من ذلك المكان ، فلما أرادوا ذلك وجدوا عليه عش يمامة قد باضت وأفرخت، فقال عمرو: اتركوا الفسطاط على حاله احتراما لليمامة التي عششت عليه
وفي رواية أخرى عند ابن عبد الحكم : أن عمرو بن العاص لما أراد التوجه إلى الإسكندرية لقتال من بقي بها من الروم أمر بنزع فسطاطه فإذا فيه يمام قد فرخ ، فقال عمرو بن العاص : لقد تحرم منا بمتحرم ، فأمر به فأقر كما هو ، وأوصى به صاحب القصر وهذا شاهد حي على ماكان يتمتع به المسلمون الأوائل من الرحمة والعطف والمواساة ، فلم تكن الحروب المتواصلة ومشاهد القتل والدماء عاملاً على قسوة قلوبهم وميلها إلى العدوان والانتقام بل وجدهم العالم رحماء بررة أوفياء ، ولا أدل على هيمنة الرحمة على قلوبهم من هذا الخبر ، حيث ترك عمرو فسطاطه رحمة بالحمامة التي عششت عليه وفرخت فيه
وإذا كان هذا القلب الكبير قد حنى على حمامة فأبقى خيمته من أجل أن لا تفجع بفراخها ، أفلا يكون حانيًا على بني البشر إذا هم تخلوا عن طغيانهم وأبصروا طريق الحق ؟!
إن هذا السلوك العالي يعتبر من أهم وسائل الدعوة إلى الإسلام
فالذين يمرون على ذلك الفسطاط القائم وحده من أجل تلك الحمامة وفراخها، والذين يسمعون بهذا الخبر سيتساءلون عن الدوافع التي دفعت هذه الأمة إلى أن تكون قوية إلى أعلى غايات القوة في القتال الله ورحيمة رقيقة إلى أسمى درجات الرحمة والرقة في حال السلم فكيف جمعت بين هذه الخصال التي ظاهرها التناقض ؟
والذي يجيب على هذا التساؤل هو البحث عن حقيقة الدين العظيم الذي خضعت له هذه الأمة ، وأصبح هو المهيمن على تصوراتها وسلوكها في هذه الحياة ، لأن هذا الدين هو الذي جمع به بين قبائل العرب حتى تكونت منهم النواة الأولى للأمة الإسلامية، فكل محاولات العظمة ، وجميع نواحي الابداع التي تمت من قادة المسلمين وجنودهم إنما هي من ثمرات الهداية إلى هذا الدين العظيم. وأخيراً فإننا نجد في هذا الخبر لفتة مهمة نحو استشعار أولئك العظماء رقابة الله عز وجل في كل خطوة يخطونها، فلو أن هذا القائد العظيم أمر بإزالة الفسطاط فمن الذي سيلومه على هذا التصرف؟ لكنه يعلم أن الله تعالى مطلع عليه فهو يراقبه جل وعلا، ويعلم أن معيته سبحانه لعباده بالنصر والتأييد إنما تكون بمعيتهم له بالطاعة والخضوع والتعظيم ، وإنما يستنزل المسلمون نصر الله سبحانه برحمتهم خلقه الضعفاء وإن كانوا من العجماوات التي لاحول لها له ولاقوة