لقد خصَّ الله تعالى الأمةَ الإسلامية على مدار العام بكثير من مواسم الخير ، فأفاض علينا سبحانه ، وهيأنا لنستقبل نفحاته في أماكنَ وأزمنةٍ بارك لنا فيها ، وجعل تلك المواسم فُرَصَاً للتزود من الطاعات التي يرتقي بها المسلم أعلى الدرجات ، ويفوز بجنة عرضها الأرض والسموات ، ومن بين هذه المواسم ليلة النصف من شعبان بإحياء ليلها وصيام نهارها ، حيث تتعاظم فيها الخيرات ، وتكثر فيها البركات ، وتُسْتَجاب فيها الدعوات، ويُسْتَحَبُّ فيها التعرُّضُ للتجليات الإلهية والنفحات الربانية ، فقد أورد الإمام الطبراني في معجمه الكبير عن محمد بن مسلمة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرضوا لها ، لعله أن يصيبكم نفحة منها فلا تشقون بعدها أبداً .
لقد ورد في فضل ليلة النصف من شعبان أحاديث صحح العلماء بعضاً منها وضعفها آخرون، وإن أجازوا الأخذ بها في فضائل الأعمال، ومنها حديث رواه الإمام أحمد والإمام الطبراني “إن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا ليلة النصف من شعبان ، فيغفر لأكثرمن شَعْرِ غَنَمِ بني كلب، وهي قبيلة فيها غنم كثير.
ومنها الحديث الذي رواه الإمام البيهقي في شعب الإيمان عن العلاء بن الحارث عن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها قالت : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل يصلي فأطال السجود حتى ظننت أنه قد قبض ، فلما رأيت ذلك قمت حتى حرَّكت إبهامه فتحرك ، فرجعت فلما رفع إليَّ رأسه من السجود وفرغ من صلاته قال: يا عائشة أو يا حميراء أظننت أن النبي قد خاس بك ؟ قلت لا والله يا رسول الله ، ولكنني ظننت أنك قبضت لطول سجودك فقال أتدرين أي ليلة هذه قلت الله ورسول أعلم قال هذه ليلة النصف من شعبان إن الله عز وجل يطلع على عباده في ليلة النصف من شعبان فيغفر للمستغفرين ويرحم المسترحمين ويؤخر أهل الحقد كما هم
ومنها حديث الإمام ابن ماجة في سننه بإسناد ضعيف عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ـ مرفوعاً ـ أي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ـ إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها فإن الله ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا، فيقول ألا من مستغفر فأغفر له، ألا مسترزق فأرزقه، ألا مبتلى فأعافيه، ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر.
وبهذه الأحاديث وغيرها التي يقوِّي بعضها بعضاً في فضائل الأعمال نقول : إن لليلة النصف من شعبان فضلاً كبيراً ، وليس هناك نص يمنع ذلك، فشهر شعبان له فضله الذي لاينكر ، فقد روى الإمام النسائي عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنه سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله: لم أَرَكَ تصوم من شهر من الشهور، ما تصوم من شعبان قال :ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، وأحب أن يُرفع علمي وأنا صائم.
وفي مواسم الخير كهذه الأيام المباركة ، فرصة كبرى لنيل الثواب من رب العالمين ، فثواب الصدقة وفضلها عظيم لاسيما في هذه الأيام الصعبة على الناس جميعاً ، فمن فضلها أن العبد يستظل تحت ظل عرش الرحمن يوم القيامة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ- ذكر منهم-“وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ”.
ودعاء النصف من شعبان كما ذكره الشيخ الإمام عبدالله سراج الدين وكان يدعو به بعد قراءة سورة يس ثلاث مرات ، ثم يدعو بعد كل مرة الأولى بنية طول العمر والبركة فيه والتوفيق لما يحبه الله ويرضاه , وأن يتولانا بماتولى به عباده الصالحين ، والثانية بنية دفع البلاء ورفع الوباء وصرف الغلاء ، وتفريج الكروب والحفظ من الفتن والزلازل والشفاء من كل داء ، والثالثة بنية زيادة الرزق وسعته والبركة فيه والاستغناء عن الناس ، وصيغة الدعاء كالآتي:
اللَّهُمَّ يَا ذَا الْمَنِّ وَلَا يُمَنُّ عَلَيْهِ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ، يَا ذَا الطَّوْلِ وَالإِنْعَامِ. لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ظَهْرَ اللَّاجِئينَ، وَجَارَ الْمُسْتَجِيرِينَ، وَأَمَانَ الْخَائِفِينَ.
اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي عِنْدَكَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ شَقِيّاً أَوْ مَحْرُوماً أَوْ مَطْرُوداً أَوْ مُقَتَّراً عَلَيَّ فِي الرِّزْقِ، فَامْحُ اللَّهُمَّ بِفَضْلِكَ شَقَاوَتِي وَحِرْمَانِي وَطَرْدِي وَإِقْتَارَ رِزْقِي، وَأَثْبِتْنِي عِنْدَكَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ سَعِيداً مَرْزُوقاً مُوَفَّقاً لِلْخَيْرَاتِ، فَإِنَّكَ قُلْتَ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ فِي كِتَابِكَ الْمُنَزَّلِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكَ الْمُرْسَلِ: يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ.
إِلَهِي بِالتَّجَلِّي الْأَعْظَمِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَهْرِ شَعْبَانَ الْمُكَرَّمِ، الَّتِي يُفْرَقُ فِيهَا كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ وَيُبْرَمُ، أَنْ تَكْشِفَ عَنَّا مِنَ الْبَلَاءِ مَا نَعْلَمُ وَمَا لَا نَعْلَمُ وَمَا أَنْتَ بِهِ أَعْلَمُ، إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعَزُّ الْأَكْرَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
ويقول الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد: وحديث “يَطَّلِع الله إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن” (رجاله ثقات) وهو حديث صحيح جاء عن عدد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يثبت فضل هذه الليلة المباركة ، وهو بمفرده حجة في فضلها.
ومن فضائل ليلة النصف من شعبان أيضاً تحويل القبلة ، وسواء كان تحويل القبلة في رجب من السنة الثانية للهجرة النبوية المباركة كما ذكر الإمام ابن حجر العسقلاني ، أو في شعبان كما قال الإمام ابن إسحاق في سيرته ، و حكى هذا القول الإمام ابن جرير الطبري من طريق السدي ، وسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما وابن مسعود رضي الله عنه ، وناس من الصحابة رضوان الله عليهم ، وقد قال الجمهور الأعظم: إنما صرفت في النصف من شعبان على رأس ثمانية عشر شهراً من الهجرة ، فالمعول عليه بإجماع المسلمون الاحتفال بذكرى تحويل القبلة في ليلة النصف من شعبان ، وهذا إجماع من الأمة على ذلك ، والأمة لاتجتمع ولا تتمالأ على الخطأ ..
وتتجلى الحكمة في تحويل قبلة المسلمين في الصلاة من بيت المقدس إلى مكة المكرمة في عدة أمور من أهمها اختبار المسلمين واليهود والمنافقين والمشركين، فلم يكن أمر تحويل القبلة بالأمر الكبير على الذين هدى الله من المسلمين المخلصين، وإنما كان محنة وأمراً كبيراً على من خالف المسلمين من يهود ومنافقين ومشركين، فأما موقف اليهود من تحويل القبلة ، فقد اعتبروه تحولاً عن قبلة الأنبياء من قبل، وأما موقف المنافقين فشككوا في أمر النبي صلى الله عليه وسلم في تحويل القبلة ، فقالوا لو كان الحق في الأولى فقد تركها، وإن كان الحق في الثانية فقد كان على باطل، وأما المشركين فقد اعتبروا تحول النبي إلى مكة تغييراً في عقيدته بزعمهم وعودة لدين آبائهم، وكل هذا يندرج تحت التمحيص والتطهير ، فقد جرت سُنّة الله في عباده أن يمتحنهم ويبتليهم ليميز الخبيث من الطيب، والصادق من الكاذب، والمؤمن من الكافر أو المنافق ، وفي التحويل تأكيد للعلاقة الوثيقة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى؛
فقرن الله تعالى بين المسجدين ليُثبِتَ القُدْسيَّةَ لكلَيْهِما؛ وليعرف المسلمُ قيمةَ المسجد الأقصى، وأن مكانته متقاربة من مكانة المسجد الحرام، وأن التفريطَ في أحدهما أو التهاونَ في حقه يُعَدُّ تهاوناً وتفريطاً في حق الآخر..
وهاهو المسجد الأقصى قبلتنا الأولى ، ومسرى نبينا صلى الله عليه وسلم مازال يئن جريحاً مستنجداً بالمسلمين ؛ لينقذوه من براثن الصهاينة ودنس المستعمرين .