كل صباح علي أن أسير بخطوات متعجلة ومتعثرة في آن واحد قاطعة الزقاق الضيق المتعرج كأنه ثقب كوني دودي ينقلني إلى بعد كوني آخر وربما زمن آخر .
اتعثر في أذيال فستاني الطويل وقدماي المصابتان بارتخاء ولادي لأربطة مفصل الكاحل تلتوي متكسرة فوق الحصى والحجارة التي تبعثرت على أرضية الزقاق.
الزقاق طويل ورطب ومليئ بالأوحال والأطفال المشردين بأيد ممدودة تستجدي الأوراق النقدية الممزقة التي يهبها لهم المارة .وكأنهم احتفظوا بها ممزقة فقط من أجل التكرم بها على تلك الوجوه الصغيرة المعجونة بسخام الذل والفقر .
على الجانبين طاولات متسخة لمطاعم تسمى ب (مطاعم الشوارع ) ومقاعد بلاستيكية حفر فيها الزمن ترع وآبار وسبب لها إعاقات دائمية مثل كرسي بساق واحدة او ظهر مخلوع .
كل مرتادي هذه المطاعم من الرجال ، وتمكث (شواية الكباب والتكة) في الطرف البعيد من الزقاق قرب المقبرة ،
نعم كان رواد المطاعم تلك يتناولون فطورهم الشهي من الكباب العراقي الساخن وهم يجاورون الموتى .
تلك المقبرة العتيقة في (…. ) .
وتجاورها ليس ببعيد عنها (مشرحة) بناية كبيرة لحفظ أجساد الموتى ، وخلف سور مبنى المشرحة افترشت النسوة المفجوعات الشارع ينتظرن بكثير من النواح والعويل جثث احباءهن التي ستخرج طازجة من تحت المشرط بعد عدة ساعات
كانت هذه هي رحلتي الصباحية كل يوم للوصول إلى محل عملي في (…).
فكان لابد لي من المرور في الزقاق المرعب أمر كممثلة على المسرح بين طاولات الرجال المنشغلين في افتراس وجبة الفطور المتبلة برائحة الموتى.
فاستنشق رائحة الشواء صباحا وتحط جزيئات دخان شواء اللحم رحالها على شعري وملابسي ثم لابد لي من أن أمر على باب المقبرة المغلق بقفل كبير صدأ وضع كي لا يهرب الموتى من قبورهم ويزاحموا الرجال في المطعم ملتهمين وجبة اللحم المشوي اللذيذة .
رحلة صباحية متكررة تصيبني بالغثيان ، فبدل أن اشم عطر ورود الجوري والرازقي تدخل أنفي عنوة ابخرة اللحم المشوي ، ويفجع قلبي بمنظر الأطفال المشردين متسخي الوجوده والملابس وكأن احدهم لم يستحم منذ عام أو يزيد.
ثم لابد لي من إلقاء التحية على الموتى كل صباح (السلام عليكم انتم السابقون ونحن اللاحقون ).
وهكذا حتى أصل لنهاية زقاق الموت هذا تكون روحي قد أفرغت جيوبها من كل فرحة وابتسامة وطيف ملون .
أصل عملي منهكة الروح مثقلة بهموم الموتى والأحياء ،
لكن في صباح غريب على زقاق الموت هذا وحين حطت قدمي اليمنى أول خطوة فيه تنفست أذني صوت ملائكي كان ينبعث من مذياع صاحب عربة الشواء ،
أخيرا شعر الرجل بالحياة تسري في عروقه وهو المجاور للمقبرة ولأهلها من الأرواح والإشباح فوضع لنا مذياع يصدح بصوت فيروز (انا عندي حنين /مابعرف لمين/ليلي بيخطفني /من بين السهرانين).
حال سريان صوتها داخل روحي تغير لون الزقاق فصار زهريا وتحولت أبخرة اللحم المشوي إلى غيمات بيضاء حطت فوق رأسي ورأيت الرجال ذوات البطون المتدلية والرؤوس الضخمة المغطاة بشعيرات بيضاء متفرقة الملتفين حول طاولات المطاعم قد تحولوا إلى فرشة بيضاء من الياسمين الدمشقي والزنبق ،
رأيت قفل باب المقبرة الكبير الصدأ قد اصطبغ باللون الفضي وفتح ثم سقط ارضا وتراجعت دفتا الباب ألى الداخل فرأيت أشباحا لأجساد نورانية تخرج من القبور ، تنتشر في الزقاق ، يمتلأ بالوهج ، برائحة الغد ، بعطر أطفال بملابس العيد لم يتشردوا بعد ، كانت قدماي ترفعاني عن أرض الزقاق ، كنت اطفو لا أسير ، وصلت أخيرا لفوهة الزقاق من نهايته التي اتسعت جدا فقفزت من ذلك الثقب الكوني الدودي الذي تمكنت من قطعه تحليقا بأجنحة فراشة ملونة بفضل صوت فيروز في ذلك الصباح الفريد الذي لم يتكرر بعدها مطلقا ، وها أنا ذا كل يوم أمارس اللعب في الزقاق المرعب مع الموت والجوع والتشرد أثبت خطواتي عميقا في الوحل قاطعة طريقي الأزلي اهمس لنفسي بأغنيات فيروزية كطفل يغني في الظلام ليشغل نفسه من التفكير في الأشباح المخيفة، عذرا لكن متى يحين موعد (سن التقاعد)
فهو وسيلتي الوحيدة للخلاص من رحلة زقاق الموت تلك