لست ممن ينزعجون عندما يرحل أحد أبناء جيله.توُفيّ إلى رحمة الله تعالى حتى الآن أكثر ممكن كانوا معى فى الفصل منذ أيام التلمذة وحتى مرحلة الصبا والشباب.لا أدعى أننى قوى بما يكفى ألا أخاف من الموت،ولكنى مع الأسف مهملاً بما يكفى ليجعلنى معتقداً أننى سأكون آخر من يرحل إلى الدار الآخرة!.كان أبى عليه رحمة الله عندما يعود من توديع أحد أقرانه يقول وقد انتابه بعض القلق:الجيل مثل الزرع،إذا سقط منه جزء تداعى له بقية الأجزاء بالسقوط تباعاً.كانت العبارة تخفى أكثر مما تظهر.فالإنسان رغم إيمانه بحقيقة الموت إلا أنه دائماً ما يحب البقاء،ليكون على الأقل اخر أبناء جيله رحيلاً.دائماً الموت بالنسبة لنا قضية تخص الآخرين.
منذ أيام ودعت الأقصر أحد أبناء جيلي.صديق الطفولة والصبا والشباب وزميل ملاعب كرة القدم فى شارع المنشية الحاج أشرف محمود حلمى الصراف أو أشرف الصاوى كما اشتهر.واحد من مجموعة أشقاء كل منهم له باع طويل فى مجال السياحة،هم أعمدة رئيسية لها بالأقصر، وحققوا فيها ولها ولا يزالوا نجاحات كبيرة،الراحلون حمدى وعابدين والمنضم إليهما حديثاً أشرف،والحاج بهاء والحاج احمد بارك الله فى عمريهما.سجلوا فى تاريخ السياحة المصرية اسماً ناصع الشهرة، أصبح علامة بارزة وماركة مسجلة تحت قيادة وتوجيه الخال رفعت الصاوى رحمه الله والذى كان بمثابة الأخ للجميع قبل أن يكون الخال الرسمي.كان كل من يريد النجاح فى السياحة عليه أن يبدأ الرحلة من العمل فى بازار الصاوى الذى تخرج منه مئات ممن تبوءوا مكانة بارزة فى كبرى شركات السياحة محلياً وعالمياً.
ولأن أشرف كان أقرب أعمار الصاوى إخوان منى فقد جمعتنا فى شارع المنشية بالأقصر أحلى أيام العمر حيث كانت المتعة بلا مسئولية.كان أشرف يسكن حارة السوالم الموازية لحارة أيوب بك صبرى التى أسكن بها،وربما اختلاف الحارات جعل كل منا كابتن فريق كرة قدم منافس للفريق الآخر،فريقى اسمه الأسد المرعب وفريق أشرف اسود المنشية،وكانت مبارياتنا تشهد إقبالاً جماهيرياً غير عادي،ينتظرها كل محبى كرة القدم فى حى المنشية ويتابعها المتفرجون على جانبى الطريق ومن شرفات المنازل.كان أشرف يتميز بحماس شديد جداً فى أداء الماتشات،لم أجد له مثيلا فى حماسه سوى عندما ظهر فيما بعد حسام حسن الذى لو كان محظوطاً لظهر ليسعده الحظ بالانضمام لفريق الأسد المرعب تحت قيادتى أو لفريق أسود المنشية تحت قيادة أشرف الصاوي!.
كنا ونحن صغار فى زمن البراءة ،لو التقيت أشرف الصاوى ثلاث أربع مرات يومياً فى الشارع يستقبلنى بنفس حرارة الاشتياق كما لو كنا لم نلتق منذ زمن طويل.يفتح ذراعيه بمجرد رؤيتى من بعيد ويبدأ فى التهليل والتكبير وابتسامته التى لا تفارق وجهه ويبادرني:فينك يا هوش كل ده،أضحك قائلاً:فينى إيه بس يا أشرف ده احنا لسه مخلصين الماتش من ساعتين،فيقول جاداً:وهم الساعتين دول شوية ياجدع،ثم يخاطب نفسه قائلاً:ماهو قلبك الحنين ده يا أشرف إللى جايبك ورا.ثم يضع يده على كتفى هامساً:طب سمعت باللى حصل؟! فأظنه سيذيع سراً، لكنه يفاجئنى بنكتة جديدة، وحتى لو كانت قديمة لا تملك إلا أن تضحك عليها من جديد من طريقة أدائه لها.كان رحمه الله شخصية جاذبة يحب كل الناس فأحبه الجميع.
فى سنواتنا الأخيرة ومع تفرق الجيل بين الأقصر والغردقة والقاهرة،قلت مرات التقائنا وكلما التقينا لم يكن لأشرف حديث سوى عن متعة الحج والعمرة وحبه لزيارة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.وجمعنا القدر سوياً معه ومع شقيقه الأصغر أحمد منذ سنوات فى رحلة عمرة مع جمع من الأصدقاء بقيادة الأخ الشقيق صالح مصطفي.وظللنا كلما إلتقينا نحكى عن ذكرياتنا فى الحرمين الشريفين منذ السفر وحتى العودة.فاللهم ارحم عبدك أشرف الصاوى بقدر حبه لكعبتك الشريفة وشوقه الذى لم ينقطع لزيارة حبيبك المصطفي،إن عين المنشية لتدمع وإن قلوب أبنائها لتحزن وانا على فراقك لمحزونون يا أشرف ولا نقول إلا ما يرضى ربنا :إنا لله وإنا إليه راجعون.