٦ أشهر من العمل المتواصل استغرقها إعداد وثيقة تحمل أبرز التوجهات الاستراتيجية للاقتصاد المصري، للفترة الرئاسية الجديدة ” ٢٠٢٤ – ٢٠٣٠” .. تكليف الرئيس عبد الفتاح السيسي كان واضحًا للحكومة، بتوسيع “دائرة النقاش” حولها، وصياغة أولويات التحرك على صعيد السياسات بالنسبة للاقتصاد المصري، خلال السنوات الست القادمة، بعد الاستماع إلى آراء الخبراء، والمتخصصين، وأصحاب المصلحة، وغيرهم من المشاركين في الحوار الوطني، للاستفادة من أفكارهم ومقترحاتهم في وضع خطط وآليات التنفيذ.
من هنا وبدوره وجَّه رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي، بطرح الوثيقة في المرحلة الثانية لجلسات الحوار الوطني، والذي كان قد انطلق في الأساس بدعوة مباشرة من الرئيس، ويستهدف في المقام الأول مشاركة كل أطياف المجتمع، على تنوعها، في صياغة أولويات العمل الوطني.
يبقى أن نعلم أن سلسلة من الجلسات وورش العمل عقدها مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء، مع حوالي ٤٠٠ خبير محلي ودولي، على مدار شهور إعداد الوثيقة.. وكانت الخلاصة ٨٧٣ توصية داعمة لأداء الاقتصاد المصري، وذلك تمهيدًا لطرحها على طاولة الحوار الوطني، ليتحقق أكبر توافق مجتمعي حول السياسات وآليات التنفيذ، وبما يتفق في الوقت نفسه مع الأهداف طويلة المدى، ضمن استراتيجية التنمية المستدامة “مصر – ٢٠٣٠”.
وبعيدًا عن كون الوثيقة الجديدة، التي نحن بصددها الآن تعبر عن جهد بحثي مضنٍ، تحمله كل مَن شارك فيه، بحب وتجرد غلفهما هدف وطني، تمثل في وضع الاقتصاد المصري على الطريق الذي يلائم طموحاتنا حتى ٢٠٣٠، فأنا على يقين بأن اهتمامًا مماثلًا وأكثر، سيكون من جانب كل المشاركين في جلسات المرحلة الثانية للحوار الوطني، كي نبلغ ما نريد، ونحقق طموحاتنا الاقتصادية، حتى في ظل كل هذه التحديات العالمية المتوالية، التي أضرت بشدة بكافة الاقتصادات، وعلى الأخص الناشئة منها، ونحن من بينها.
لا أحد بمقدوره أن يغفل ما تم إجراؤه على مدار الأعوام الماضية، من عديد من الإصلاحات في بنية الاقتصاد المصري، آتت ثمارها وانعكست بشكل واضح على تحسن كثير من المؤشرات الاقتصادية، بشهادات دولية لأكبر وأوثق المؤسسات المالية العالمية، وفي الوقت ذاته، وبنفس القدر لا يستطيع كائن مَن كان أن ينكر ما تعرض إليه العالم كله من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه، من هزات اقتصادية عنيفة، ومتعددة الأبعاد، على إثر موجات متلاحقة من الأزمات، لاتزال تؤثر على بنيان الاقتصاد العالمي كله، بدءًا من جائحة “كورونا”، التي وإن خفت حدة المخاوف منها، والهواجس الاقتصادية بشأن تأثيراتها، إلا أنه لا يمكن إلى الآن التخفف من الحذر بشأنها، خاصة في ظل ما يطرأ من وقت إلى آخر من ظهور متحور جديد، يستدعي اليقظة، وهو ما يسترعي انتباه الدولة حاليًا بشأن الوافد الفيروسي الأخير JN1
الحرب “الروسية – الأوكرانية”، هي الأخرى بما صاحبها من زلزال اقتصادي عنيف، توابعه مستمرة إلى يومنا هذا.. ومن بعدها حرب غزة، التي يتزامن مع ما استوجبته من اهتمام مصري شديد ببعد الأمن القومي -الذي من الطبيعي ألا يعلو صوت عليه- تعامل الدولة في الوقت ذاته بقدر عالٍ من الجدية والمرونة مع الانعكاسات الاقتصادية المترتبة عليها، والتي لا شك يفاقم منها – ليس علينا وحدنا – ما يجري الآن في البحر الأحمر، بتأثيراته المباشرة على حرية الملاحة وحركة التجارة العالمية عبره، وبالتبعية على جزء لا يستهان به من مواردنا الدولارية، التي تضخها قناة السويس كل يوم في شرايين الاقتصاد القومي لمصر.. كل ذلك يشكل أعباءً ثقالًا فوق كاهل الدولة، التي تمضي بسفينتنا وسط أجواء غير مواتية بالمرة، ومع ذلك لم تثنها عن القيام بكل ما عليها من واجبات ونفقات والتزامات تجاه شعب تعدى تعداده ال ١٠٥ ملايين، علاوة على ضيوف يتجاوز عددهم ال ٩ ملايين، كلهم “في رقبتها”، وتصحو كل يوم على توفير كل احتياجاتهم من السلع والخدمات، وحل كل ما يقابلها ويقابلهم من مشكلات، لم تسع هي إليها أو تتسبب فيها، ولكنها فرضت نفسها عليها وعلينا معها.
تعقيبًا منها على تثبيت “موديز” للتصنيف الائتماني السيادي لمصر، أكدت وزارة المالية أمس الأول في بيان لها، أن الحكومة تدير مخاطر الاقتصاد الكلي بمرونة، لاحتواء الصدمات الخارجية المتتالية، وتتعامل في الوقت نفسه بتوازن و”حرص شديد”، مع الآثار السلبية الناتجة عن التوترات “الجيوسياسية” المؤثرة على النشاط الاقتصادي.. وفي الوقت الذي تلتزم فيه بالانضباط المالي في ظل هذه التحديات شديدة التعقيد، فالحرص الحكومي كل الحرص على تلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين، بل والتوسع في “الحماية الاجتماعية”، لتشمل تحت مظلتها كل محدودي الدخل، و”الأولى بالرعاية والأكثر احتياجًا”.. ولعل زيادة المصروفات بما يتعدى ٥٦% لتخفيف الأعباء عن المواطنين تحمل دلالة واضحة في هذا الاتجاه.
١٥٠ مليار جنيه، “فائضًا أوليًا”، أعلن عنه الوزير “معيط”، ونجحنا في تحقيقه خلال النصف الأول من العام المالي الحالي، مقارنة ب ٢٥ مليارًا في الفترة المماثلة من الموازنة الماضية، يمثل بقوة في تصوري مؤشرًا مطمئنًا برغم كل هذه “التحديات المستوردة”، الأمر الذي يمنحنا بالضرورة ثقة أكبر في طريقة تعاطي الدولة مع هذه التحديات، ومقدرتها على تجاوزها، ليس فقط وصولًا إلى “بر الأمان”، ولكن أيضًا إلى تحقيق ما نصبو إليه من طموحات اقتصادية ل “الجمهورية الجديدة”.
برنامج “الطروحات”، الذي يعزز قدرتنا على تلبية الاحتياجات التمويلية خلال العامين المقبلين، ويسهم في جذب المزيد من التدفقات الاستثمارية، والحد من الاحتياج للتمويل الخارجي، خاصة وأن تخارج الدولة من عدد من الأنشطة الاقتصادية نجح في ضخ ٣،٥ مليار دولار.. علاوة على إمكانية الحصول كذلك على ٥ مليارات دولار سنويًا، بشروط ميسرة، من البنوك التنموية.. وعزم الدولة على إفساح المجال بشكل أكبر أمام القطاع الخاص، باعتباره قاطرة للتنمية الشاملة.. كلها أيضًا في يقيني وفي مجملها أمور إيجابية، تشي بأن القادم أفضل.
أعود في ختام مقالي، إلى تكليف الرئيس السيسي للحكومة بتوسيع دائرة النقاش حول وثيقة “أبرز التوجهات الاستراتيجية للاقتصاد المصري، للفترة الرئاسية الجديدة”، لصياغة أولويات التحرك في هذا السياق.. وهو ما أراه يحمل بعدًا هامًا، حرص عليه الرئيس كعادته، وهو إشراك الجميع في “رسم خريطة بكرة”.. نعم، كلنا يجب أن نعي أننا على ظهر نفس السفينة.. وكلنا لا بد وأن نستشعر ذات المسئولية الجماعية.. الدولة وحدها ليست المسئولة من “الألف إلى الياء”.. ينبغي أن نشاركها ونصطف خلفها.. تحملنا من قبل أعباء برنامج إصلاح اقتصادي، لم يكن هناك مفر منه.. الوضع الآن يفرض رغمًا عن الدولة أن نقاسمها التحمل.. ولنثق أننا طالما تفاءلنا بالخير، يقينًا سوف نجده.
mhamid.gom@gmail.com