الحقيقة التي يجب ألا تغيب عن أذهاننا، أن الإدارة الأمريكية لا تريد للكيان الصهيوني أن يسقط وينهار، أو يضعف وينكسر، ولا أن تتراجع قدرته ويفقد هيبته، ويخسر تفوقه ويتلاشى نفوذه، فهذا يعني انتصار المقاومة ومحورها، وعلو رايتها وسيادة فكرها، ونجاح سياستها وتوسع قوتها، وانتقال تجربتها وتكرار فعلتها، وتشجيع الآخرين مثلها وتضامنهم جميعاً معها،
وهو ما لا تريده الإدارة الأمريكية أبداً، وما لا تريده أنظمةٌ أخرى كثيرة، دولية وإقليمية، ممن يستشعرون الخطر من انتصار المقاومة الفلسطينية، وثباتها أمام الغارات الإسرائيلية الأمريكية المهولة، فقد يهدد انتصارها أنظمتها الحاكمة، ويعرضها للفوضى أو الثورة عليها من جديد.
لكن الإدارة الأمريكية باتت محرجة وقلقة من ضراوة الغارات الإسرائيلية، وحجم الدمار وعدد الضحايا، وبشاعة الصور المتناقلة عبر الوسائل الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي، التي تفضح الممارسات الإسرائيلية، وتكشف عن جرائمها ضد الإنسانية، ومجازرها الدموية وعمليات الإبادة الجماعية لشعبٍ بأكمله. رغم التوغل البري واستخدام العدو لكل قدراته الحربية لم يستطع أن يحسم المعركة، ولا يزال عاجزاً عن تحقيق أهدافه والمقاومة لا تزال تملك زمام المبادرة وتكبده خسائر كبيرة، كما لديها تصميم على مواصلة التصدي للعدوان حتى تحقيق النصر”
يومًا بعد يوم؛ يتأكد للقاصي والداني، أن حرب الإبادة الجماعية التي يقوم بها الكيان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، هي حرب أميركية بالدرجة الأولى، وأن الولايات المتحدة توشك أن تصرّح بأن عدم تحقيق الحرب أهدافَها، هو بمثابة هزيمة كبرى لها لا تقل عن هزيمتها في فيتنام وأفغانستان.
إن هذا الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وهذا الالتفاف حول حماس والمقاومة؛ لأكبر ردّ على الأكاذيب التي تطلقها أجهزة الدعاية الصهيو-أميركية ضد حماس والمقاومة، وأنها تحتمي بالمدنيين وتمنع نزوحهم إلى الأماكن الآمنة.
هذا الالتفاف حول المقاومة والتضامن معها، يبدو ذلك طبيعيًا جدًا عندما نعرف أن من بين كل 10 شباب في قطاع غزة، يوجد شابٌ واحد على الأقل منخرطٌ في صفوف المقاومة، ولا تكاد توجد أسرة في قطاع غزة ليس لها ابن أو قريب في صفوف المقاومة.
إن هذا الصمود أفشل المخطط الصهيو-أميركي بتفريغ قطاع غزة وضمه إلى الكيان الصهيوني. وإن استمرار هذا الصمود هو العامل الحاسم الأول في دحر العدوان.
ولم يعد العالم بحاجة إلى أدلة وبراهين أكثر من ذلك، على أن الإدارة الأميركية، تتقاسم المسؤولية مع الكيان الصهيوني؛ عن كافة النتائج والآثار التي خلفتها وتخلفها هذه الحرب في قطاع غزة؛ بزعم “محاربة الإرهاب مع احترام القانون الدولي والإنساني”.ومهما تأخر يوم الحساب، فإن المؤكد أن التحالف الصهيو-أميركي لن ينجو من لعنة غزة القادمة. لقد صمد قطاع غزة بشعبه ومقاومته في وجه الحرب الصهيو-أميركية؛ صمودًا أسطوريًا، على مدى الشهرَين الماضيَين، ويبدو أنه لا يفصله عن النصر القادم في هذه الحرب سوى نهاية الشهر الثالث، بفعل العوامل الحاسمة التي يمتلكها، ولم يستطع الدمار أن ينتزعها منه، فما هي هذه العوامل الحاسمة؟
وزاد في حرجها الحراكُ الشعبي الأمريكي والدولي الواسع المناهض للحرب، والرافض للسياسة الأمريكية المؤيدة لها والداعمة للكيان، وبروز أصوات مؤثرة في مجلسي الشيوخ والنواب الأمريكيين، تدين سياسة الرئيس بايدن، وتدعوه لمراجعة قراراته وتغيير سياساته، فضلاً عن دخول محكمة العدل الدولية على مسار الحرب، والتي قد يكون قرارها الذي سيصدر اليوم الجمعة، نقطة تحول وعلامةً فارقةً في مسلسل العدوان والجرائم الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني.
وأمام عجز الكيان الصهيوني عن تحقيق النصر وإنجاز الأهداف التي أعلن عنها، وأكد عليها وجدَّدَها وغَيَّرَها أكثر من مرةٍ، أمام صمود المقاومة الفلسطينية واستبسالها، وثباتها على الأرض وقدرتها الفذة في الميدان، فإن الإدارة الأمريكية تخطط للخروج من مأزقها الأخلاقي والإنساني، وتجاوز تحدياتها الداخلية والخارجية، وذلك من خلال إصرارها على مواصلة الحرب وتشديد الضغط وعدم التراجع، لكن على أن تأخذ الحرب شكلاً آخر وأسلوباً مختلفاً، فتنتقل إلى المرحلة الثالثة التي بشرت بها ودعت الحكومة الإسرائيلية للقيام بها، والتي تقوم على تحسين الصورة الخارجية، وإدخال المؤن والمساعدات، والتخفيف عن السكان،
في الوقت الذي تتركز فيه العمليات وتتكثف، ضد أهدافٍ معينة وشخصياتٍ محددة، ومقار ومراكز وقواعد خاصة بالمقاومة، وهذا يعني أنها تريد تنظيم العمليات الحربية وإدارتها، وتوجيهها وترشيدها، بما يعني استمرار الحرب وإطالتها، وإشراك دول العالم والإقليم فيها، وصولاً إلى تحقيق الأهداف التي ت يعتبر الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني في قطاع غزة، هو العامل الأكبر في مواجهة حرب الإبادة الجماعية التي يشنها التحالف الصهيو-أميركي منذ أكثر من شهرين، وإفشال مخططاته في تفريغ قطاع غزة وضمه للكيان الصهيوني.
وقد تجلّى هذا الصمود فيما يأتي:
مواجهة آلة الدمار الصهيو-أميركيّة بصدور عارية، وهم يعلمون تمامًا أن هذه المواجهة تعني تدمير منازلهم فوق رؤوسهم ورؤوس نسائهم وأطفالهم، خصوصًا بعد أن رأوها عيانًا في منازل وأسر جيرانهم. وقد شاهدنا في حروب عديدة كيف هُرع السكان المدنيون منذ الساعات الأولى للحرب إلى مغادرة بلادهم؛ هربًا من ويلات الحرب. عدم الانصياع كليًا لتعليمات الكيان الصهيوني الخاصة بالخروج إلى الجنوب باتجاه الأماكن التي وصفها بأنها آمنة، إلا أن الأخطاء العملياتية لقوات الكيان الصهيوني ضد النازحين؛ عزّزت مقولة: (لا يوجد مكان آمن في قطاع غزة)، وزادت من إصرارهم على البقاء في منازلهم رغم الأهوال المرعبة التي تنتظرهم.
لم يتّجه السكان النازحون- من مناطقهم تحت وطأة الدمار المتواصل- إلى الحدود؛ هربًا من الموت، وإنما انتقلوا في الغالب؛ إلى أماكن الإيواء الذاتية كالمدارس والمستشفيات، أو إلى منازل الأقارب التي يعتقد أنها أكثر أمنًا، وكثيرًا ما كان هذا النزوح لملاقاة مصيرهم. لم يخرج سكان قطاع غزة للتظاهر ضد حماس وفصائل المقاومة المسلحة، بل كانت العبارات المتكررة على ألسنة من دُمرت منازلهم واستشهد أحبابهم، مليئةً بالإيمان والاحتساب والتضامن مع المقاومة؛ من أجل دحر الاحتلال.
لم يقتصر الصمود والثبات على تحمل القصف والدمار فحسب، بل أيضًا تحمل الجوع والعطش، والنزيف والجراح المفتوحة والأشلاء، ونقص الدواء والماء والملبس، وضيق المأوى، والقنص، والانفجارات التي تنزع القلوب من صدورها، وركام الدمار، والجثث التي لا تجد مكانًا تدفن فيه، وغير ذلك من جوانب القسوة والرعب والمآسي التي تعجز عن تحملها الجبال الشمّاء .ريدها، وهي بقاء الكيان وهزيمة المقاومة. قلوب العالم أصبحت اليوم مع فلسطين وضد الكيان الصهيوني أكثر من أي وقت مضى
«تهدف دولة الاحتلال لجعل الفلسطينيين يتعاملون بجدية مع أطروحاتها لمرحلة ما بعد حماس، وهزيمة المقاومة، وهذه الحرب النفسية، يشنها قادة الاحتلال لعجزهم حتى بداية الشهر الثالث، عن تحقيق أي من أهدافهم التي أعلنوها في اليوم الأول للعدوان، وفي مقدمتها القضاء على حماس، وتحرير الرهائن دون عملية تبادل».
«لو كان بمقدور الاحتلال تصفية المقاومة، لما طالب من الإدارة الأمريكية التدخل من خلال بعض الوسطاء، للتوصل إلى هدنة ثانية، وتبادل أسرى جديد، وهذا دليل آخر على أن جيش الكيان الصهيوني، وبعد كل هذه المدة لحرب الإبادة، ظل عاجزاً عن تصفية المقاومة
«لن تستطيع دولة الكيان، تحقيق نصر حاسم، وليس أمامها سوى الانسحاب، والتسليم بالهزيمة، وبعد أن تضع الحرب أوزارها، يمكن الحديث عن مستقبل قطاع غزة، بين الفلسطينيين أنفسهم، وليس الاحتلال وداعميه».