قد يكون من الحكمة والحنكة أن يستقبل الرسميون قرار محكمة العدل الدولية بخصوص التدابير المفروضة على إسرائيل بالترحيب والابتهاج، عله يكون خطوة أولى على طريق العدالة الطويل، الذى يمكن أن يصل فى النهاية إلى إدانة إسرائيل وحلفائها، ووصمهم بالعار الذى يستحقونه، على نحو ما ذكرت وزيرة خارجية جنوب إفريقيا، لكن من واجبنا مع ذلك أن نفتح عيوننا لنرى الحقيقة رؤية موضوعية وواقعية، فلا نفرط فى الأماني والطموحات، ولا نفرط فى الإحباط وتثبيط الهمم.
لقد أعطت المحكمة لكل طرف من الطرفين المتنازعين أمامها نصف انتصار يفرح به، وصدمته نصف صدمة حتى لا يكتمل فرحه، فقبلت دعوى جنوب إفريقيا من حيث المبدأ، للنظر فى اتهام إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية، وقدمت إشارات على أن ما لديها من أدلة وشهادات يجعلها تقبل النظر فى الدعوى، وبذلك رفضت طلب إسرائيل وأمريكا وحلفائهما بشطب الدعوى من الأساس ورفض الاتهام، وهذا فى حد ذاته إنجاز مهم لأنصار القضية الفلسطينية، فلأول مرة فى التاريخ توضع إسرائيل تحت المساءلة القانونية الدولية، بعد أن كانت دائما فوق المحاسبة والمعاقبة، بفضل الحماية الأمريكية الغربية غير المحدودة لها.
لكن المحكمة فى الوقت ذاته لم تضع فى قرارها نصا صريحا بوقف إطلاق النار، وهو أول مطلب فى قائمة التدابير المؤقتة التى طالبت بها جنوب إفريقيا، كما أنه السبيل الوحيد الذى بدونه لن تتحقق التدابير الأخرى الواردة فى القرار، وتبقى مجرد تعبيرات إنشائية أنيقة، لا تسمن ولا تغنى من جوع، تضاف إلى مئات، بل ألوف، من القرارات الإنشائية الصادرة عن مؤسسات دولية لصالح الشعب الفلسطينى دون تنفيذ، وقد أحدث عدم النص صراحة على وقف إطلاق النار خيبة أمل لدى أنصار القضية الفلسطينية، بقدر ما أحدث من فرحة واسعة لدى إسرائيل وحلفائها.
وبصرف النظر عن مشاعر الفرح والغضب فإن هناك ثلاث ملاحظات مهمة على قرار المحكمة يجب التوقف عندها:
ـ الأولى أن القرار صيغ بلغة فضفاضة تراعى التوازنات، ولذلك قالت عنه الإدارة الأمريكية إنه جاء “متوازنا”، وهي اللغة الفضفاضة نفسها التى صيغت بها قرارات المنظمات الدولية بشأن القضية الفلسطينية، وأشهرها القرار 242، والتى تجعل لكل طرف قراءة خاصة به، حتى تنشب معارك جانبية حول القراءات والتفسيرات دون حسم، إلى أن يأتى الحسم من الطرف الأقوى، وليس بالضرورة من الطرف صاحب الحق، وقد اختلفت القراءات حول قرار المحكمة، فقال أنصار فلسطين إن التدابير المطلوبة من إسرائيل تعنى ـ ضمنا ـ وقف إطلاق النار، بينما أكدت إسرائيل أن عدم النص على وقف إطلاق النار يعنى ـ ضمنا ـ الموافقة على أن تستمر الحرب حتى تحقق النصر الذى تريده.
ـ الثانية أن قرار المحكمة فى جوهره، ورغم الحماس الذى استقبل به، يدور فى فلك الموقف الأمريكى، ولا يكاد يتجاوزه، فالولايات المتحدة ما فتئت تدعو إسرائيل، كما دعتها المحكمة، إلى اتخاذ ما يلزم من إجراءات لضمان تقليل المخاطر التى يتعرض لها المدنيون فى غزة، وتوفير ملاذات آمنة للنازحين، وزيادة معدلات إدخال المواد الإغاثية الضرورية لسكان القطاع، لكنها لم تطلب أبدا وقف إطلاق النار، كما لم تطلب المحكمة ذلك، وكلتاهما ـ أمريكا والمحكمة ـ تدعو إسرائيل فيما يشبه الرجاء إلى أن تتخذ إجراءات وتدابير، وتعلق الأمرعلى إرادتها، دون موقف رادع ملزم، مثلما يحدث فى الصراعات الأخرى.
ـ الثالثة أن قرار المحكمة، مثل كل القرارات الدولية التى تتعلق بالقضية الفلسطينية، خلا من مفردات أصيلة فى القضية مثل (احتلال ومقاومة وعدوان وحصار)، وكأن الصراع أساسا بين إسرائيل وجنوب إفريقيا، ولا يخص شعب فلسطين، وهو أمر مفهوم على العموم، فعندما تصدر القرارات بشأن فلسطين تصدر ناعمة على استحياء، لأنها تكون فى مواجهة القوى الأخطر فى العالم: الماسونية الدولية، والصهيونية العالمية، وإسرائيل، والدول العظمى فى الغرب، وقضية فلسطين فى حقيقتها قضية أممية مزمنة متشابكة، تتداخل فيها عناصر الدين والحضارة والسياسة والجغرافيا والثارات التاريخية، وأي قرار يهين إسرائيل أو يقهرها، سيكون فيه إدانة وقهر لهذه القوى، وهو أمر مازال مستبعدا.
ليس معنى هذا بالطبع التقليل من الخطوة الجريئة التى قامت بها جنوب إفريقيا، ولا التقليل من القرار الصادر من محكمة العدل الدولية، وإنما غاية المراد ألا يدفعنا الحماس إلى المبالغة فى حجم الإنجاز، وتحميله ما لا يحتمل، وتعليق آمال عظام على المحكمة وقرارها، أو على غيرها من المؤسسات الدولية، وتوقع أن هذه المؤسسات سوف تنصف الضعيف من القوي، وتحرر له أرضه، فما من وطن تحرر بقرار، وإنما بالقوة والسلاح، وبالدم والتضحيات والمعاناة، إلى جانب النضال السياسى الذى يجب أن يمتد إلى كل الميادين والمحافل الدولية، ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
لقد أبدت جنوب أفريقيا شجاعة فائقة حين كسرت أنف إسرائيل، واستدرجتها إلى محكمة العدل، ووضعتها فى موقف الدفاع، لكن قرار المحكمة جاء مجرد (كارت أصفر)، وهناك حاجة إلى مزيد من الشجاعة فى المواقف والتحركات حتى تصدر المحكمة (الكارت الأحمر)، الذى يوقف إسرائيل عند حدها، ويغير من طبيعة المعادلة الظالمة، ويثبت أن أرواح البشر متساوية، فلا يصح أن ينتفض العالم الذى يدعى التحضر من أجل قتلى إسرائيل وأسراها، ويتجاهل شهداء فلسطين، والمعتقلين فى سجون الاحتلال، والمشردين فى العراء، والحصار المضروب على غزة، وجدار الفصل العنصرى والمستوطنات ومصادرة البيوت والزراعات، وتدمير المساجد والكنائس والمستشفيات والمدارس.