عاش قديمًا فلاح شاب يُدعى( نصير )يعمل في حقل صغير له يبعد مسافة طويلة عن منزله ويوميا وقبل حلول المساء كان يعود نصير إلى بيته سيرًا على الأقدام لينال قسطاً من الراحة قبل بزوغ فجر جديد معلناً يوم عمل آخر .
وفي أحد الأيام استغرق نصير في العمل لدرجة أن الشمس قد غابت دون أن يشعر فلما انتبه للأمر حاول أن يعجِّل بالعودة الى بيته لكن الظلام كان قد خيم على الحقول فمشى نصير حتى لم يعد قادرا على رؤية طريقه في الظلام فقرر أن يقضي ليلته في إسطبل مهجور يقع في منتصف الطريق حيث استلقى هناك على القش واستغرق في النوم وعند منتصف الليل سمع نصير حركة غريبة إستيقظ على إثرها فجال بصره في المكان فاستطاع أن يميّز شخصين يدخلان الإسطبل خلسة فتغطى نصير بالقش و انتظر ما الذي سيجري أخذ الغريبان يتحدثان حتى احتدم بينهما النقاش وإذا بهما يشتبكان ويتصارعان بالأيدي ثم قام أحدهما بِعَضّ ساعد الآخر فصرخ هذا وأخرج من جعبته خنجراًطعن به خصمه في ظهره فقتله
كان نصير يراقب ما يجري برعب دون أن يجرؤ على الإتيان بحركة واحدة وهنا تراجع القاتل إلى خارج الإسطبل فاستطاع نصير أن يرى وجهه تحت ضوء القمر المنبثق من خلف السحاب ثم هرب القاتل لا يلوي خطاه شيئ مما أتاح لنصير أخيراً أن يخرج من مخبأه ويتنفس الصعداء
و في الصباح قام نصير بإبلاغ السلطات بجريمة القتل فحضروا إلى مكان الجريمة وقاموا باللازم وطلبوا من نصير أن يمثُل أمام القاضي ليدلي بشهادته فأجابهم لذلك ودخل إلى مجلس القاضي مع جمهرة من الحضور وانتظر وصول القاضي بعد قليل حضر القاضي فطلب الحاجب من نصير أن يتقدم ويقف أمام حضرته ليشهد على ما قد رأى…
امتثل نصير للأمر وعندما وقف أمام القاضي أصيب بمفاجأة صاعقة فقد كان القاضي هو نفسه القاتل الذي شاهده ليلة الأمس !!!
جمد نصير في مكانه وهو يرتجف في سره لا يعرف ماذا يفعل حتى أجفله صوت القاضي قائلا : تكلم ما هي قضيتك ؟
وهنا قال الحاجب :إنه يا سيدي الشاهد الوحيد في جريمة القتل التي حدثت الليلة الماضية في الاسطبل المهجور لاحظ نصير أن القاضي حالما سمع بكلمة إسطبل حتى رفع رأسه مدهوشًا ونظر إليه صارفا كل انتباهه عليه أطال القاضي النظر إلى نصير حتى أحس الأخير أن نظرات القاضي تتغلغل إلى أعماقه تريد أن تمزقه من الداخل إلى أن نطق القاضي أخيرا :إعلم يا هذا إنك في مجلس موقر وإن أي إهانة توجه إلى أي شخص دون دليل دامغ فعقوبتها صارمة جداً وأحكم القاضي قبضته بشدة وهو يقول ذلك كي يخيف نصيراً ويضعف عزيمته حتى إن نصير تلعثم بالكلام قائلا :يا سيادة القاتل عفوا أقصد يا سيادة القاضي …
ضحك الحاضرين جميعاً باستثناء نصير الذي كان يتصبَّب عرقا و كان يعيش “صراع داخلي” رهيب أيجب أن ينسحب الآن ويحافظ على حياته ؟ أم يجاهر بالحق ويكشف القاضي وليكن ما يكون
رفع نصير رأسه فشاهد لوحة على الحائط فوق رأس القاضي مكتوب عليها :(( بسم الله الرحمن الرحيم : ومن يتوكَّل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيئ قدرا )) صدق الله العظيم
فقال نصير في سره : قد توكلت عليك يا إلهي وهنا ذهب الروع من نفس نصير وهو يشير الى القاضي بكل ثقة ويقول :أنه أنت قاتل الرجل عند الإسطبل ليلة الأمس نعم والله أنت لا غيرك ما كذبت فيما أقول
عمَّ السكون الجميع وكأن فوق رؤوسهم الطير حتى شقَّ الصمت صراخ القاضي وهو ينهض من مجلسه ويصيح :يا حراس خذوا هذا المدَّعي الوغد وألقوه في غياهب السجن أمسك حارسان بذراعي نصير وسحباه للخلف وهو يقاومهما ويصيح
قائلاً :عندي دليل .. لدي الدليل .. غير أن القاضي حثّهما على الإسراع بأخراجه من المجلس فوراً قائلا :أبعدوا هذا المجنون عنا ولننتقل إلى القضية الثانية …
وفجأة نهض من بين الحضور رجل ملثَّم إقترب من القاضي ثم أماط اللثام عن وجهه وإذا بالقاضي يقع وهو يقبل الأرض بين قدميه ويقول : مولاي الخليفة أهلاً وسهلاً بك يا مولاي قال الخليفة :لطالما سمعت عن ظلمك وإجحافك في قضاياك حتى قرَّرت أن أتحقَّق بنفسي وها أنا ذا أشاهد بعيني أنك تلقي بشاهد في السجن حتى دون أن تسمع حجَّته ثم التفت إلى الحرس وقال :دعوه حتى نسمع حجَّته..
قال نصير :لقد رأيت الضحية وهو يقوم بعَضّ ساعد القاضي الأيسر بقوة جعلته يصرخ أمر الخليفة القاضي أن يكشف عن ساعده فامتثل القاضي وهو يرتجف وحسر الثوب عن ذراعه الأيسر فإذا بساعده ملفوفة بضمادة ثم قال القاضي :لكن يا مولاي هذه العضّة ناجمة عن كلب حراسة لدي طلب الخليفة منه أن يزيل الضمادة فأزالها ثم قال الخليفة :أيوجد بينكم طبيب ؟
نهض أحدهم وقال :أنا يا مولاي الطبيب الذي عاين جثة الاسطبل
إذن انظر الى هذا الجرح وأخبرني أهو جرح ناجم عن عضّة إنسان أم حيوان ؟
نظر الطبيب إلى الجرح وما أسرع ما قال :من الواضح جدا إنها عضّة إنسان لأن الندب التي خلفتها مستطيلة أما ندوب الكلب فتكون دائرية قال الخليفة :
قلت إنك الطبيب الذي عاين الجثة أخبرني هل هناك ما يدل على أن المقتول قد قام بالعضّ ؟
- اجل يا مولاي فقد وجدت آثار دماء على أطراف أسنانه الأمامية واسمح لي بالقول يا سيدي أني أعتقد ان القتيل هو من قام بعَضّ القاضي
- وما الذي يجعلك تعتقد ذلك ؟
- لدى القتيل ثلمة في طرف أحد أسنانه العليا ومما أراه الآن على ساعد القاضي أجد الندوب متساوية إلا في مكان ذلك السن المثلوم حيث الندبة أقل غوراً بسبب مكان الثلمة وهذا يؤكد أن القاضي قد تم عضّه ليلة الأمس من قبل المقتول وفي تلك اللحظة إنهار القاضي وانخرط في البكاء بين يدي الخليفة وهو يردد عبارات العفو وطلب السماح فزجره الخليفة قائلا :ما حملك على ما صنعت ؟
- لقد كان يبتزني لأنه ضبطني وأنا أعبث مع إحدى النساء فهدّدني إما إن أدفع له وإما يفضحني عند زوجها فاستدرجته إلى الإسطبل المهجور حيث قتلته وأنا الآن نادم أشد الندم
قال الخليفة :لن يفيدك الندم بعد أن فضحك الله على يد رجل لم يخف في الله لومة لائم ثم التفت الخليفة إلى نصير ووضع يده على كتفه وقال :لولا رجال مثل هؤلاء لعاث الظالمون في ربوعنا ولضرب الفساد بأطنابه في أوطاننا ولأكل القوي الضعيف وداس الجهلة على رقاب الأتقياء
لكن من حكمة الله تعالى أن يسلِّط أمثالكم ليقفوا بوجه كل طاغٍ يطغى عن حده وزائغ يزوغ عن رشده بعد ذلك وبأمر من الخليفة تم تعيين نصير ليتولى منصب القاضي
وقد إشتهر بإسم ( القاضي نصير الحق ).
تمت بحمد الله