تخيل… مفكر كبير بقدر الدكتور إدوارد سعيد يكتب مقالا مدهشا يمتدح فيه تحية كاريوكا بوصفها فنانة رائعة لا شبيه لها،
فماذا رأى الرجل في هذه الفنانة الفريدة حتى يذعن لسطوة الحديث عنها؟ ولماذا لم يخجل المفكر المرموق من الكتابة عن راقصة والحفاوة بها؟
هل أراد الرجل أن يعلم الناس أن الرقص الشرقي فن رفيع إذا تم التعامل معه بمنطق الفن لا بمنطق الابتذال؟.
هذا الأسبوع تذكرت ذلك المقال المنشور في مجلة الآداب البيروتية عام 1990، فرجعت إلى أرشيفي وعكفت على إعادة قراءته مرة أخرى،
فأمس، 22 فبراير هو ذكرى ميلاد تحية كاريوكا، أشهر راقصة مصرية على مر العصور، أو وفقا لوصف إدوارد سعيد في المقال إياه (أروع راقصة شرقية في كل الأزمان).
المقال عنوانه (تحية إلى تحية)، كتبه المفكر الفلسطيني الكبير (1935/ 2003) بعد زيارة إلى منزل تحية بالقاهرة قبل 34 سنة، حيث جلس إليها برفقة المخرجة نبيهة لطفي، وأمطرها بالعديد من الأسئلة،
وكان قد وصف لنا بذكاء شديد شكلها وحالتها وحجابها ودعاءها وجسدها الممتلئ وهي في الخامسة والسبعين (تحية مولودة في 1915، وغابت عنا في 20 سبتمبر 1999).
أما ما قاله إدوارد سعيد عن أول مرة يرى فيها تحية كاريوكا رأي العين، فكان في إحدى ليالي شهر يونيو من عام 1950، إذ كتب الرجل:
(وقد شاهدت واحدًا من هذه العروض – يقصد عروض الرقص الشرقي – وسوف أتذكره ما حييت بوضوح صادم. كان ذلك عام 1950، فقد اكتشف زميل لي مغامر من زملاء المدرسة أن تحية ترقص في كازينو بديعة الواقع بجانب النيل في حي الجيزة “حيث يشمخ اليوم أوتيل الشيراتون”،
فاشتريت البطاقات ووصل أربعة فتيان خُرُق في الرابعة عشرة من عمرهم إلى السهرة الموعودة قبل ساعتين على الأقل من الوقت المضروب لابتداء العرض).
ويواصل إداورد سعيد وصف أجواء الكازينو الأشهر في تاريخ مصر هكذا:
(كان كازينو بديعة قد امتلأ بالحضور حين أطفئت الأنوار استعدادًا لبروز النجمة، وإذا بالطاولات التي يربو عددها على الأربعين قد احتشدت بجمهور جميع أفراده مصريون من أبناء الطبقة الوسطى الغواة،
وكان شريك تحية في تلك السهرة المغني عبدالعزيز محمود، وهو رجل أصلع توحي هيئته بالتبلد يرتدي سترة ليلية بيضاء).
من أسف لم يستطع إدوارد سعيد في المقطع السابق أن يرى في عبدالعزيز محمود سوى هيئته الجسدية وملامحه الجامدة،
ولم ينتبه بما يكفي لجانبه الفني المتميز، فهو مطرب متفرد وملحن ذو شأن مهم في تاريخنا الغنائي، كما أنه أسهم بنصيب في تعزيز الأغنية السينمائية من خلال مجموعة من الأفلام اللطيفة التي لعب بطولتها أو شارك فيها بالغناء فقط،
ولعلك تذكر معي بعض أغنياته الجميلة مثل: (يا تاكسي الغرام/ منديل الحلو/ يا نجف بنور/ شوف شوف قلبي الملهوف وغيرها كثير).
المهم يواصل المفكر الكبير وصفه لتلك الليلة التاريخية:
(اعتلى هذا المغني المسرح وزرع نفسه في كرسي من الخشب موضوع في منتصف خشبة المسرح القديمة، وراح يغني برفقة تخت يجلس أفراده في واحد من جوانب الخشبة.
كان اسم الأغنية “منديل الحلو” وتتغنى أبياتها العصية على العد، مرة بعد مرة وطوال ساعة تقريبًا، بالمرأة التي هدّلت ذلك المنديل وبكت فيه وزينت شعرها به.
كانت قد مضت على بدء تلك الأغنية خمس عشرة دقيقة على الأقل حين ظهرت تحية فجأة على بعد بضع أقدام من عبدالعزيز محمود.
وكنا نجلس في أكثر المقاعد بعدًا عن خشبة المسرح، ومع ذلك فإن لباس تحية الأزرق اللماع الرفراف قد خطف أبصارنا).
ثم يمضي إدوارد سعيد بعيدًا في تتبع حركات الراقصة الشهيرة وتحليلها فنيًا:
(ما ألمع برق، أي ترتر، ثوبها، وما أضبط ثباتها الدائم إذ تقف هناك وعلى وجهها بسمة كلية الهدوء. إن جوهر فن الرقص العربي – يستوي في ذلك مع فن مصارعة الثيران – لا يتمثل في كثرة الحركات التي يقوم بها الفنان بل في قلتها.
وحدهم الراقصون المبتدئون أو المقلدون اليونانيون والأمريكيون البائسون هم الذين يقومون بالهزهزة والنطنطة الغليظتين اللتين تعتبران “إغراء” رخيصًا وتخلعًا حريميًا ليس إلا.
إن جوهر الرقص العربي يتمثل في إحداث الأثر عن طريق الإيحاء بشكل أساسي لا حصري، وفي القيام بذلك الإحداث على امتداد فصول يترابط واحدها بالآخر من خلال المواضيع المتكررة والأمزجة المتراوحة. وهذا ما فعلته تحية في تلك الليلة من خلال عملها المتكامل).
وبذكاء شديد يشرح إداورد سعيد دلالات تلك الرقصة:
(لقد كان موضوع تحية الأساسي في “منديل الحلو” هو علاقتها بعبدالعزيز محمود الغافل عنها إلى حد بعيد،
فهي تنزلق من ورائه فيما هو يدندن أغانيه برتابة، وهي تبدو وكأنها ستخر بين يديه وهي تقلده وتسخر منه، وإنها لتفعل ذلك كله من غير أن تلمسه أو تستثير رده على الإطلاق.
كانت ستائرها اللفافة تتهدل على البكيني الملطف، الذي كان أساسيًا بالنسبة لجهازها الفني لكنه لم يهدف إلى أن يصبح، في أي وقت من الأوقات، محط الأنظار في ذاته.
وكان جمال رقصها يكمن في تكامله: في الإحساس الذي تنقله إلينا بجسد مذهل في لدونته وتناسقه، جسد يتماوج عبر سلاسل معقدة، وإن كانت تزيينية، من العوائق المصنوعة من الشاش والأحجبة والقلائد والأسلاك الذهبية والفضية، التي كانت حركات تحية تنفخ فيها الحياة عمدًا، وأحيانا على نحو يكاد يكون نظريًا.
إنها لتقف، على سبيل المثال، وتبدأ بتحريك وركها اليمنى ببطء باعثة الحركة في طماقيها الفضيين، والطماق عبارة عن كساء للساق من جلد أو قماش، فيما الخرز يتهدل على الجانب الأيمن من خصرها.
وإذ تقوم بهذا كله، فإنها تتحدر بنظرها إلى أجزاء جسدها المتحركة فتدعونا إلى تثبيت نظراتنا المحدقة بدورها إلى تلك الأجزاء، فكأننا جميعًا نشاهد مسرحية صغيرة منفصلة، شديدة الضبط من الناحية الإيقاعية، معيدين ترتيب جسدها بحيث يتم تسليط الضوء على جانبها الأيمن الذي يكاد يكون منفصلا عن باقي جسدها).
وبمهارة بصرية فاحصة ولغة مقتصدة يصف المفكر الفلسطيني رقص تحية كاريوكا الذي ينفعل به هو وأصدقاؤه أيما انفعال:
(لم تنط بغير طائل، ولم ترقّص نهديها بابتذال، ولم تدفع بحوضها إلى الأمام دفعًا فظا، ولم تتمايل بوركيها عبثا.
لقد كان ثمة ترو مهيب في كل مراحل رقصها حتى أثناء المقاطع الأكثر سرعة. وكان كل واحد منا يعلم أنه في قلب تجربة تهييجية شديدة الإثارة، لأن الإثارة فيها مؤجلة إلى ما لا نهاية.
تجربة لم نكن نحلم أن نواجه مثيلا لها في حياتنا الفعلية. هذه هي الحكاية بالضبط: لقد كنا أمام جنس في مناسبة عامة. جنس مبرمج ومنفذ ببراعة، لكنه جنس عصي على التحقق والبلوغ).
لم ينس إداورد سعيد في مقاله هذا أن يشيد أيضًا بقدراتها التمثيلية المتميزة خاصة في فيلمي (لعبة الست) و(شباب امرأة)،
ولأنه ظل طوال أربعين سنة مفتونا بتحية كاريوكا، فلما توجه إلى زيارتها في شقتها عام 1990، لم يكن مفر من الحفاوة بها من خلال كتابة مقال فاتن أطلق عليه عنوانا لطيفا هو (تحية إلى تحية).
وهأنذا، في الذكرى 109 لميلاد هذه الفنانة الفذة أردد (تحية إلى روح تحية).