حكاية مكررة لابد أنك سمعتها أكثر من مرة من ممثل أو مطرب أو صحفي موهوب.
تقول الحكاية – التي تروى عادة بأكثر من طريقة – إن هذا الموهوب التقى في بداية مشواره المهني مخرجا أو ملحنا أو مدير تحرير صدمه بكلمات كالحجارة أو أشد قسوة.
تقول الكلمات التي تكاد أن تنهي مستقبل هذا الموهوب قبل أن يبدأ : أنت لاتصلح لهذا العمل ومن الأفضل أن تبحث لك عن مجال آخر .. انتهت الزيارة.
أما مايحدث بعد أن يغلق الموهوب الباب وراءه فهو احتمال من اثنين : إذا كان هذا الموهوب صاحب نفسية هشة فإنه سيبتعد وينعزل ويتوارى وربما يبدأ رحلة البحث عن مجال آخر.
أما إذا كان هذا الموهوب من النوع الذي يتميز بالصلابة النفسية فإنه بالتأكيد سينجح في الوصول إلى هدفه وبالتأكيد سنسمعه أيضا يحكي بعد سنوات عن أن هذا المخرج أو الملحن أو مدير التحرير الذي طرده من مكتبة سيسعى إلى التعاون معه والاستفادة من موهبته بعد نجاحه.
كثير منا سمع عن الطريقة الباردة جدا التي استقبل بها النقاد الفنان حسين فهمي في بدايات ظهوره السينمائي.
يكفي أن أقول لك إن القسوة التي استقبل بها دفعته إلى الرد بقسوة بالغة : إذا كان النقاد يقولون ليس لدينا ممثل سينمائي اسمه حسين فهمي فأنا أقول ليس لدينا نقاد سينمائيون.
أهم مطرب عربي تعرض لهجوم شديد في بدايةمسيرته إلى هجوم شديد.
الهجوم وصل إلى حد التعدي على عبدالحليم حافظ وإنزاله عنوة من على المسرح بعد أن أصر أن يقدم أغنياته الخاصة ورفض أن يقدم أغنيات عبدالوهاب.
وبعدها أصبح المعتدى عليه عبدالحليم حافظ ولم يذكر التاريخ الذين حاولوا إنهاء مسيرته قبل بدايتها.
تخيل أيضا أن أحمد زكي انهار، في بداية مشواره، أمام ضيق أفق منتج سينمائى سحب منه بطولة فيلم الكرنك لصالح نور الشريف اعتقادا منه أن سعاد حسني لا يمكن أن تحب أحمد زكي.
وعندما حاولوا إفهامه أن زينب دياب وليست سعاد حسني هي من تحب اسماعيل الشيخ وليس أحمد ذكي أصر على الرفض وبعدها صار زكي أهم ممثل عرفه تاريخ السينما العربية ولو أجاد الإنجليزية لتفوق على كثير من نجوم السينما العالمية كما قال عمر الشريف.
تخيل مرة ثالثة لو أن محمد صلاح حمل حقيبته وعاد إلى نجريج تأثرا بالرفض الجارح من رئيس الزمالك في ذلك الوقت الذي رفضه بقسوة شديدة : أمامه الكثير جدا ليلعب للزمالك، فلم يتأثر صلاح وبدأ رحلة طويلة من الجدية والاجتهاد والإصرار والقسوة على نفسه حتى صار أحد أهم نجوم العالم في كرة القدم .
كثير من هؤلاء المنتقدين ليسوا متربصين بل إن بعضهم مفكرون ونقاد كبار ثقافة وعلما وفنا وأدبا ودورا تنويريا في المجتمع.
ولكن مهما بلغت مكانتهم فإن نقدهم يظل يحتمل الصواب والخطأ.
كما أن نقدهم حتى وإن كان صحيحا من الناحية العلمية لن يمنع ولا ينبغي له أن يمنع صاحب الموهبة الحقيقية من الوصول إلى الناس أو ممارسة دوره في تشكيل وجدانهم.
ذات يوم، شن المفكر الكبير هجوما عنيفا على
الشاعر الكبير.
قال عباس العقاد – بجرأته المعهودة – إن أحمد شوقي لا يصلح إلا أن يكون شاعرا للأمراء وليس أميرا للشعراء.
وأضاف العقاد إن شوقي أقحم اسمه على الناس ب ” التهليل والتطبيل بمناسبة وغير مناسبة وبحق وبغير حق “.
كلمات العقاد وأحكامه الحادة قد تكون صحيحة إذا أعملنا المعايير العلمية.
ولكنها على أرض الواقع مضت إلى حال سبيلها وبقي أحمد شوقي شاعرا عظيما وظل لقبه : أمير الشعراء ملتصقا به ليس باعتراف الجمهور فقط ولكن باعتراف منافسه على اللقب حافظ ابراهيم الذي قال :
أمير القوافي قد أتيت مبايعا ..
وهذي وفود الشرق قد بايعت معي
ماتت كلمات العقاد بحق شوقي أو بقيت محفوظة أو محتفيا بها عند الدائرة الضيقة من المتخصصين.
بل مات العقاد نفسه كشاعر، ولم ينجح كل ما يعرفه عن المعنى الحقيقي للشعر وهو في مجمله صحيح أن يجعلنا نحفظ له بيت شعر واحدا بينما بقيت الأجيال على اختلاف ثقافتها تستشهد بشعر شوقي وتدرس قصائده وتحصل في شعره على درجات الماجستير والدكتوراه.
من منا لم يردد إذا شاهد موقفا غير أخلاقي :
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم ..
فأقم عليهم مأتما وعويلا
ومن منا لم يردد حين يستبد به الحنين إلى الوطن :
وطني لو شغلت بالخلد عنه ..
نازعتني اليه في الخلد نفسي
ومن منا لم يطرب لبيته الجميل :
وتعطلت لغة الكلام ..
وخاطبت عيني في دنيا الهوى عيناك
كما أن كل من كابد الغربة وضربته مرارتها قد ضبط نفسه متلبسا بترديد بيته الجميل :
قد يهون العمر إلا لحظة..
وتهون الأرض إلا موضعا
وفي إذاعة الصباح وكراريس التعبير وكتب الدراسة يتردد شعره :
وما نيل المطالب بالتمني ..
ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
وكلنا يستمع بخشوع إلى أم كلثوم وهي تشدو بيته الشهير الذي يلخص مقاصد الدين :
الدين يسر والخلافة بيعة ..
والأمر شورى والحقوق قضاء
ولا يوجد وصف أجمل لرحمة الرسول من البيت الجميل :
فإذا رحمت فأنت أم أو أب ..
هذان في الدنيا هما الرحماء
أو وصف أمانته بقوله :
وإذا أخذت العهد أو أعطيته ..
فجميع عهدك ذمة ووفاء
.
كما انتقد المفكر الكبير طه حسين في كتابه الشهير حافظ وشوقي الشاعرين الكبيرين.
فقد كان لايشعر بكثير من الرضا عن صدارة حافظ وشوقي المشهد الشعري.
وطعن كثيرا في ضعف الثقافة وتفكك القصيدة وتكرار المعاني وتقليدية الأغراض وغياب الوحدة العضوية
واختلاف الجو النفسي.
بينما أشاد طه حسين كثيرا بشعر العقاد، وقال إنه لا يجد مثله شاعرا، وأن شعره هو النموذج المثالي للشعر.
ورغم تمكن العقاد وطه حسين نقديا ودورهما الرائد في التنوير إلا أن نقدهما شوقي وحافظ لم يصمد طويلا ولم ينل من مكانة الشاعرين في صدارة الشعراء الذين شكلوا وجدان كل الناطقين بالعربية.
والمعنى الذي أريد أن انقله لشبابنا هو ألا تجعل النقد، مهما كان حجم الناقد وقيمته ومكانته، يحيد بك عن الطريق التي رسمتها لنفسك وتأكدت أنها تناسب ميولك.
فالناقد، مهما علا شأنه وارتفعت مكانته وكان أمينا وصادقا وليس متربصا أو باحثا عن شهرة أو تحركه الغيرة أو المنافسة، إنما ينتقدك متأثرا بتجربته وعبر رؤيته وفي إطار موقفه من الحياة وما قد مر به من
أحداث وتجارب وإحباطات لم يستطع أن يتخطاها
أو يقفز عليها.
أعرف أنك تتساءل الآن: ولكن هؤلاء موهوبون وأنا لست كذلك.
بالتأكيد انت لست في موهبة هؤلاء، ولكنك تستطيع أن تأخذ من سيرتهم الإصرار على تحقيق الأهداف وعدم التأثر بالنقد، خاصة إذا كان من النوع الذي لا يعتبر شوقي شاعرا عظيما وعبدالحليم مطربا كبيرا ومحمد صلاح لاعبا موهوبا وأحمد زكي ممثلا قديرا أو ( ماينفعش يحب سعاد حسني ) !!