لعلها مصادفةٌ عجيبة، أن يحمل أقصر شهور السنة، أطولَ مساحات حزني ووجعي وذكرياتي!
بين طيات أوراق نتيجته وُلدت أمي، وتوفيت أيضًا.
منذ ثلاثة أعوام، وتحديدًا غُرة الشهر ذاته.
حدثتني أمي:
- حبيبتي، أشعر بألمٍ في أسفل ظهري يمتد لنهايات قدمي.
- لنذهب إلى طبيبكِ غاليتي ولنرَ.
تأبطتْ ذراعي بطفولتها وكل أمومتي، شديدة الجَمال هي، محتفظة بروح طفلة لا زالت تعبث وتلهو.
في حجرة باردة جدًّا كقبوٍ لم يُفتح منذ سنوات، جلستُ معها بانتظار إجراء مسح ذري أشار به الطبيب قبل اللقاء.
بتمتماتٍ خافتة ورافضة أسمعها بالكاد: (ما كان الأمر ليستدعي كل هذا! طبيبٌ مضخِّم للأمر، وابنة مريضة بالقلق على صحتي!).
أُحكِم ضمة ذراعيَّ لكتفيها مبتسمة: (منذ متى والبنات الحلوات لهن رأي؟).
تُخفي ابتسامتها الطيبة؛ لتؤكد لي إصرارها على الاعتراض على تضخيمي للأمر وتصعيده.
بضحكتها الحلوة وطيب حديثها الذي يسبقها دومًا، تلجُ غرفة طبيبها الودود معلنةً شجبها واعتراضها:
- لم يكن الأمر ليستدعي، فقط بعض الآلام الخفيفة، وبمُسكن ومضادٍ للالتهاب ستنتهي المسألة.
الطبيب يداعبها مبتسمًا: - الأمر لا يخلو من حجة لنرى هذا الوجه الصبوح ونحظى بالدعوات الطيبة.
ممسكًا بنتائج المسح الذري والتحاليل، تبدلتْ ملامحه للحظاتٍ لا ينتبه إليها إلا قلبُ ابنة عاشقة: - لا لا، أمورنا طيبة الحمد لله، وعند حضرتك كل الحق، الأمر بسيط فعلًا.
قلبي ينتفض سريعًا، وعقلي يكتظ بأفكار مرعبة، أستعيذ من وساوس صدري ونفسي، وألتقط كف أمي الدافئ الحنون أُقَبله لتنهض معي لنرحل.
لم يلقبها أحدٌ من أولادها أو أحفادها بـ(أمي) أو (جدتي)، اعتاد الجميع تدليلها، ومن يستحق الدلال سواها؟!
وهي الحقيقة لم تدخر جهدًا في منحي لقب (أمها) منذ سنوات ليست بالقليلة، فكانت جملتها الشهيرة: (ليست ابنتي، هي أمي بكل طاقات حنانها واهتمامها).
قبل أن نصل إلى باب الخروج، ناداني الطبيب:
- لم تأخذي ورقة التعليمات للدواء والطعام بعدُ!
حسنًا، فلتذهبي بالوالدة إلى حجرة الانتظار لتستريح، ثم تعاودي مرة أخرى.
وأُسقِطَ في يدي، وتهاوى قلبي بين الضلوع.
تمنيتُ لو توقف الزمن عند لحظة خروجي ولم أدخل لهذه الغرفة مرةً ثانية. - لا أصدق أن ما أطالعه أمامي من نتائج فحوصات، هو لهذه السيدة التي كانت تجلس أمامي منذ برهة!
في حالتها الآن، المفترَض أنها تعاني من آلام مبرحة تحملها للجوء إلى مُسكنات قوية، والإقامة بمَشفى مختص!
واللهِ إنها لَمعجزة أن تتحرك وتتكلم. - يؤسفني أن أُخبركِ ابنتي أن الوضع أسوأ مما نظن، وأسأل الله تعالى أن يعينها ويلطف بها الشهرَ المتبقي لها على قيد الحياة!!!
أقف في مواجهته تمامًا، في محاولةٍ يائسة لتلقِّي تلك الرصاصات القاتلة، دون أن يتهاوى جسدي أمامه.
صرختُ بصوت مرتجف: - ماذا تقول؟! شهر.. مُسكنات.. مَشفى؟! تتحدث عن أمي؟! أكيد هناك خطأٌ ما دكتورنا العزيز، هي من كانت هنا تجلس ضاحكة على هذا المقعد، وتحركتْ لتسبقني لحجرة الانتظار!
مَن ستموت بعد شهر؟!
لم يَنبِس الطبيب ببِنت شفة، قام بهدوء من مكانه ليقف في مواجهتي مربِّتًا على كتفي، وأعطاني ورقةً خطَّ عليها بعض أنواع المُسكنات عند الحاجة، ورشَّح لي طبيب علاج تلطيفي، وفقط!
في ذعرٍ شديد أرفع عيني من الورقة ناظرةً إليه: - أنا لا أفهم شيئًا؟! “تلطيفي” و”مُسكنات”؟! حضرتك تقصد أمي أنا؟!
- ابنتي الغالية، هي فقط لا تحتاج سوى اللطف والابتسامة والتخفيف.
بخطواتِ مَن تحمل ثقل الكون بقلبها، صرتُ إلى حبيبة القلب وصاحبة العمر.. كل العمر.
وبابتسامةٍ لا أستطيع الجزم بتصنيفها.. ابتسامة، أم دمعة ملتهبة؟
بالقرب منها خرج صوتي من سرادق عزاء مدعيًا المرح: - ليتني استمعتُ إليكِ ولم نأتي.. حقًّا لم نكن بحاجة إلى كل هذا العناء، الحمد لله على سلامتكِ يا غالية.
كانت دائمًا تفهم وتعي الأشياء بتفاصيلها، ولكنها طالما ادعت العكس لتبقى الحياة بمباهجها مُرددةً: “كلما اقتربنا احترقنا”.
كنا نرتب للاحتفال بعيد ميلادها في منتصف فبراير الحزين الذي بدأ بالانتهاء.
لم تتدهور صحة أمي، بل بقي الحال كما هو عليه لدرجةٍ ألقت الشك في قلبي أن ما حدث لم يكن سوى أضغاث أحلام.
كانت جميلة، وكان يومًا لا يُنسى، اكتظ منزلها العامر- الذي لم يغادره زواره يومًا إلا معها- لتشييع جثمانها الطاهر الطيب إلى مثواها الأخير.
ما بين ضحكات مريرة مرارة الصبر، ومداعبات للحبيبة، وفَتْح هدايا، وقلوب تحترق، مضى اليوم!
أحقًّا بعد أيام لن أراها؟!
كيف لملاك الرحمة أن يحمل ميراث القسوة؟!
كيف استطاع أن يخبرني أنه ليس أمامي سوى أيام ولن أراها للأبد؟
لم أكن لأسكن في غير ذلك الكهف الآمن، ما بين كتفيها.. أين سأذهب إذن؟
أخبرَني أنها سترحل، ولم يخبرني أين سأضع رحالي وسنوات عمري الباقية!
يراني الجميع قوية متماسكة دومًا، قادرة على اتخاذ القرارات وتخطِّي كل المصاعب.
ولم يدرك أحد مِن أين كانت لي كل هذه القوة، ومن أي مصدر طاقة كنتُ أشحذ عزيمتي!
فلم يعلم أحد أنه لا زال متصلًا! نعم، لا زال متصلًا، ذلك الحبل السري الذي جمع بيننا منذ كنتُ غيبًا في عالم الغيب، لم تستطع طبيبة النساء فصله.
نعم، لم أُفصَل عنها يومًا.. فقط خرج جسدي الضئيل من رحمها إلى الحياة، ولكنه ظل بيننا دومًا، ذلك الحبل السري.
أستمد منه ما يعينني على خطوب الحياة، وما يجعلني- بكل ما أوتيت من ضعفٍ- قوية.
مسرعةٌ هي الأيام كمَشاهِد متتالية في عمل سينمائي مرعب.
ومع آخِر ورقة من أوراق شهر فبراير بتلك النتيجة المهترئة ألمًا-
يوم الثامن والعشرين- كانت النهاية!
كان فبراير بسيطًا، وكانت سنةً بسيطة سهلة كخروج روحها الطيبة بعدما نطقت مرارًا بالشهادتين.
ومع أذان المغرب.. ذُبح الحبل السري، وأُغلق ما بين كتفيها في وجهي، وتم فطامي.
يقولون في الموروثات الشعبية: “أول أحزان الإنسان الفطام”، وأنا تجمعتْ مرارات العالم بأكمله وأتراحه في تلك الليلة..
نَحْر الحبل السري.. ثم انتزاعي من بيتي الذي لم أعرف سواه طيلة عمرى لأصير بلا مأوى، وفطامي و… و… رحيلكِ يا فقيدة الروح والقلب!
كيف أُخبركِ يا أمي أنني عندما صليت عليكِ، لم أشعر حينها بالوقت.. كنتُ أريد أن يتوقف بي الزمن، كانت صلاةً أشبه بالعِناق، كنتُ أود لو أنني أسمع صوتكِ لآخِر مرَّة، وأن أُقبِّل يدكِ طويلًا طويلًا، وأن أضمكِ لصدري فلا أترككِ تذهبين وحيدة.
كيف أُخبركِ أنني ما زلت أسمع صوتكِ كل يوم، وأراكِ كل يوم، وأفتقدكِ الآن أكثر من كل يوم.
وسيظل كلُّ يوم هو حزنًا يشبه حزن تلك الأمسية…
أمسية الفقد…
لقد كنتِ أكبر من أن تُنسَي.. أكبر من أن تُطوى عليكِ الصحف..
في مراسم الوداع، كانت هديتك ملح القلب وصَمْته… والكثير الكثير من فراغ الروح.