كلما هلت ذكرى ميلاد سيد درويش (17 مارس 1892) أجدني شغوفًا بالإنصات إلى ما تيسر من أغنياته الآسرة، لكن يبدو أن الكنز الموسيقي المذهل الذي تركه هذا العبقري الفذ مازال يخفي في ثناياه الكثير،
وما علينا إلا نغوص في بحر هذا الكنز عسى أن نفلح في اقتناص جواهره الثمينة ولآلئه النادرة.
من هذه الجواهر ما سأذكره لك توًا، إذ لا أظن أن هناك فنانا موسيقيًا أقدم على تلحين أغنية واحدة يردد كلماتها خمسة أفراد من جنسيات مختلفة، كل بلغته، إلا هذا المدعو سيد درويش.
هذه الجسارة في تلحين تلك الأغنية العجيبة بلهجات مختلفة تؤكد أنه كان رجلا مكونا من اللحم والدم والأنغام والإيقاعات.
الأغنية اسمها “بوخومار خنفشار” من أوبريت اسمه “رن” قدمته فرقة نجيب الريحاني على المسرح ربما في عام 1918، أو حول ذلك التاريخ تقريبًا.
كتب الأوبريت وكلمات الأغنية العبقري الآخر بديع خيري. وكما تقول المعلومات المتاحة حول الأغنية، فإن (أبو كشكش) تزوج أربعة نساء من جنسيات مختلفة هي اليونانية والشامية والتركية والسودانية،
وقد وصل أهل زوجاته جميعًا إلى بيته في وقت واحد بهدف قتله! وهكذا تدور وقائع الأغنية الغريبة، حيث ينذر ويتوعد كل واحد من هؤلاء الأربعة، كل بلهجته الخاصة،
يتوعدون (أبو كشكش) الذي يرد عليهم ذلك الرجل المزواج بلهجتنا المصرية.
سمعت الأغنية مرارًا بصوت سيد مصطفى ومحمد البحر درويش ابن سيد درويش، ولم أفهم الكثير من كلماتها بطبيعة الحال،
غير أن الموسيقى المنهمرة تتسلل إلى القلب بيسر، فأجدني أدندن ببعض مقاطعها ونغماتها، الأمر الذي يفسر لنا ما قاله عبدالوهاب عن موسيقى سيد درويش، حيث وصفها بقوله:
(إنها موسيقى عشرية، موسيقى بنت حلال، لها أب ولها أم).
الحق أن المتأمل في الإنجاز المذهل لسيد درويش يعتريه العجب، إذ كيف لشاب عاش 31 سنة فقط أن يلحن 30 مسرحية غنائية احتوت على أكثر من 250 أغنية، الكثير منها مازال يتردد حتى الآن؟ وكل ذلك حدث قبل أكثر من قرن من الزمان.
تعال أذكر لك بعض هذه الأعمال الفنية الرائعة:
نشيد بلادي بلادي، وهو نشيدنا القومي/ أحسن جيوش في الأمم جيوشنا/ قوم يا مصري مصر دائما بتناديك/ سالمة يا سلامة/ يا عزيز عيني/ زوروني كل سنة مرة/ أنا هويت/ الحلوة دي قامت تعجن في الفجرية/ أهو ده اللي صار/ يا حلاوة أم اسماعين في وسط عيالها/ هز الهلال يا سيد/ حرّج عليا بابا ما روحش السينما/ على أد الليل ما يطول/ والله تستاهل يا قلبي/ دنجي دنجي… سرقوا الصندوق يا محمد/ يا بلح زغلول/ الوصوليين… عشان ما نعلى ونعلى ونعلى لازم نطاطي نطاطي نطاطي/ خفيف الروح بيتعاجب/ يا بهجة الروج/، فضلا عن الأغنيات التي أنجزها لفئات اجتماعية مختلفة مثل الموظفين والعربجية والشيالين وغيرهم.
حتى الملائكة والشياطين لم يسلموا من حلاوة موسيقاه، فهناك أغنية له اسمها (الشيطان) كتبها الممثل الكبير عبدالعزيز أحمد، وغناها سيد درويش في مسرحية (الباروكة) التي عرضت سنة 1921،
ويقول مطلعها (كان الشيطان بيعزّم يوم على ابن الناس/ عايز يجيب له نحس البوم من الديل للراس)، وبالمناسبة هناك تسجيل لهذه الأغنية بصوت عبدالوهاب على العود.
أما الملائكة، فغنى لهم سيد درويش (يا ناس أنا مت في حبي وجم ملايكة يحاسبوني حدش كده قال؟)، والتي كتبها بديع خيري، وهي موجودة على يوتيوب بصوت إسماعيل شبانة الشقيق الأكبر لعبدالحليم حافظ.
باختصار… سيد درويش ابن ثورة 1919 هو أعجوبة فنية مذهلة عابرة للقرون.