“تاريخ كل إنسان ينبغي أن يدوّن
“قبل الإنكسار” و “بعدالإنكسار”
من منكم مر بهذه المرحلة وتفاجأ بالناس يطرحون عليه هذا السؤال:
(ااه كم تغيرت؟!!!)
مهلا ،لم أقصد تلك المرحلة التي تنهار فيها ويرتدي وجهك عتمة الليل وجسدك ارتعاش أوراق الخريف،لا ،بل مابعد ذلك.
مابعد الإنكسار، مابعد أن تطحن الرحى حبة القمح وتحيلها إلى صورة أخرى من نفسها.
نفس حبة القمح لكن بهيئة أخرى، بمذاق آخر .
تلك المرحلة التي تلملم فيها شتاتك وتستيقظ تنظر لمن حولك بعينين جديدتين تماما.
يقول إميل سيوران:
“بعد تجارب معينة ينبغي علينا تغيير أسمائنا، لأننا لم نعد نحن”
هو أنت ،لكن بفم تفتحه كل مائة عام مرة كي تتحدث.
لم تعدتعاتب،تبالي،تثرثر،تجادل.
بعد الإنكسار أنت أكثر نضوجا.
هو أنت، لكنك قلبت السذاجة والطيبة إلى حذر ،والثقة المطلقة إلى ممر بسقف توقعاتٍ منخفض جدا .
هو أنت، لكنك تخليت عن (التفاؤل الساذج)،ذلك التفاؤل الذي يصور لك السراب ماءً ،لأن الأمل يمنع من توقع الدناءة ،وتذكر قول الروائي أريك ماريا ريمارك (غالبا مايصدق الإنسان الكذب إذا كان يعيش بالأمل)،وهنا يقصد تحديدا التفاؤل الساذج.
بعد تجارب قاسية ستفتح عينيك لتنظر في المرآة لتجد على وجهك ملامح لعائد من الموت ، وفي عينيك نور من حكمة ،ألم يقل الشاعر والروائي البصير بورخيس وهم يحذرونه من السقوط عند نزوله درجات السلم في عمارة قديمة في بوينس آيرس ، (لاتقلقوا فقد تجاوزت المرحلة التي أنكسر فيها)!
لأن في يوم ما ستتوقف الحياة عن إعطائك الدروس وتبدأ بمعاقبتك على الدروس التي لم تفهمها سابقا.
لذا بعد أن تفهم الدرس الذي بسبب سذاجتك البالغة لم تفهمه إلا بعد الإعادة والتكرار وفي كل مرة يعرض عليك بشكل جديد ،مثل قطعة البلاستك أيام الحصار على العراق يوما كانت أبريق ثم تصهر وتعاد لتكون (نعال أبو الأصبع) أو ربما ترتقي قليلا لتصبح إناءً بلاستيكيا للفواكه والخضروات،نفس المادة لكن بشكل آخر،نفس الدرس لكن بطريقة وصورة مغايرة.
وهكذا بعد الإستيعاب ستشعر وكأنك طير خرج لتوه من الماء تنفض عن جسدك رذاذ الحزن والوحشة والخذلان .
ستكون نفسك وكرامتك عندك مقدسة كالحرير الأصفر لدى امبراطور الصين .
فالسعادة هي خيبة تم تجاوزها.
أحيانا عليك ان تتحطم من تجارب عنيفة لكي تقوم من رمادك ،أو أن تسقط المطرقة على رأسك قبل أن تهوي بها على صخرة الحياة فتفتتها إلى خبرات ثمينة.
يسألونك ،لماذا تغيرت؟، أو قد تغيرت كثيرا؟
نعم تغيرت ،لأن شعور الخوف من الخسارة قد تلاشى بعد عشرات الخسارات ،فوصلت إلى مصالحة مع الذات وقبول الموت بشرف ،وهي مرحلة تراكم خبرات وجد صعب وصولها.
سلام ،هدوء،لامبالاة،ابتسامة صافية غير متفائلة، جراح تضيء كأوسمة نبل لناجٍ من معركة وعليه آثار مخالب لذئاب.
أحيانا لابد من أن تركل الحياة على مؤخرتها وتستهزء بها تماما كما قال كافكا (إن الحياة تبلغ من القسوة أحيانا ماتجعل المرء يمد لسانه مستهزئا بها حتى وهو داخل العربة التي تقوده إلى الإعدام ).
قل لهم حين تبهرهم ابتسامتك الباردة وأعصابك الحديدية وهدوءك الذي لاتتبعه عاصفة أبدا ،نعم لقد تغيرت ، لم أعد أجرجر خيبتي كذيل فستان طويل ،تبا،لقد تجاوزت المرحلة التي أنكسر فيها .