ليست العلاقة بين هذا الزوج المفهومي ، مسرح وسياسة، وليدة هذا العصر الذي نعيش فيه، ولكنها ضاربة في القدم، قدم المسرح نفسه، بحيث يمكن القول إن المسرح والسياسة توأم. ولا ينبغي أن ينصرف الذهن هنا، حين استعمال كلمة سياسة إلى معناها الاحترافي أو السياسة الاحترافية، مع إمكانية استنباط ملامح مسرحية في هذه الأخيرة. ولكن القصد يتعلق بسياسة في المسرح، نصا وعرضا. وهي ليست غريبة عن المسرح وليست مقحمة فيه إقحاما، مادام أن أحد معانيها، كما حدده ابن منظور في “لسان العرب” هو “القيام على الشيء بما يصلحه”.(لسان العرب.ج/6. دار صادر.بيروت. ص/108).
ولاشك أن كبار المسرحيين في العالم، كتابا وشعراء، وفي مختلف العصور والأجناس، انخرطوا مسرحيا في السياسة بشكل من الأشكال، مادام هؤلاء المسرحيون ينزعون، انطلاقا من مواقف إنسانية وقيم ومثل عليا، إلى الإصلاح. والإصلاح من معاني السياسة كما سبق القول. كما أنهم يسعون من أجل اكتساب عواطف الناس من خلال المسرح. و”اكتساب حب الناس عمل سياسي” كما جاء على لسان توت إحدى شخصيات مسرحية “إيزيس” لتوفيق الحكيم. (إيزيس.. دار الكتاب اللبناني. بيروت. لبنان. ط/1. 1978. ص/103).
وليس عسيرا تقديم نماذج أخرى لإبراز العلاقة بين المسرح والسياسة، ولكن العسير حقا هو كيفية الانتقاء. ورغم ذلك فإن قارئ “أوديب ملكا” لسفوكل الإغريقي (ترجمة طه حسين) يستوقفه، من ضمن ما يستوقفه، الحوار الذي جرى بين كريون وأوديب أمام المواطنين. وهو حوار ذو طبيعة سياسية. وكذلك اتهام أوديب الكاهن ترسياس بتدبير مؤامرة ضده. وفي القرن الثالث عشر الميلادي كان الكاتب المسرحي الصيني قوان هان تشينغ “قد فضح الظلم الاجتماعي، الذي لم يظهر أي تسامح إزاءه، بطريقة من شأنها أن تجعل جمهوره يمتلك رؤية واضحة لمصدر معاناته، وللهدف الذي يجب محابهته في الحياة الواقعية. إن مسرحياته مفعمة بالسجايا البطولية التي ألهمت الشعب روح الكفاح ضد العسف. وقد استطاع بفضل حبكته المعقدة، الجيدة البناء، إظهار كيف يتصرف الأبطال والبطلات في ميدان الصراع، فضح العدو، والاتحاد مع الأصدقاء، واستخدام الإستراتيجية الملائمة لدحر الخصوم”. (مسرحيات مختارة للكاتب قوان هان تشينغ. ترجمة هادي العلوي. ص/9).
وفي إطار تلك العلاقة تدخل مسرحية “إلى الأمام” لميخائيل شاتروف (دار الفارابي. بيروت. لبنان. ط/1. 1988. ترجمة جابر أبي جابر وتقديم توفيق سلوم) التي كتبت تحت تأثير سياسة البرسترويكا التي اتبعها آخر زعيم سوفياتي، هو ميخائيل غورباتشوف. ولذلك فقد أعادت هذه المسرحية قراءة تاريخ الاتحاد السوفياتي. وهي قراءة غير تمجيدية ولكنها انتقادية تكشف عن بعض العيوب التي شابت ذلك التاريخ، ناظرة إلى هذا الأخير من زاوية النسبية لا من زاوية المطلق.
ولما كان مسرح أحمد أبي خليل القباني في القرن التاسع عشر مسرحا إصلاحيا في جوهره، فقد تطور الأمر إلى “أن صدرت الإرادة السنية إلى حمدي باشا والي الشام بمنع إبي خليل من التمثيل وإغلاق مسرحه”. (محمد يوسف نجم. المسرحية في الأدب العربي الحديث. دار الثقافة. بيروت. ط/3. 1980. ص/68). حصل ذلك بعد وشاية سعيد الغبرا. إذن “أغلق مسرح القباني ووجد خصومه الفرصة سانحة للنيل منه، فأغروا به صبية الأزقة، وحفظوهم بعض الأغاني والأشعار ليشتموه بها كلما قابلوه في الطريق. وقد قيل في ذلك أشعار كثيرة، ظل السوريون يرددونها ويتفكهون بها أمدا طويلا”. (نفس المرجع السابق ونفس الصفحة).
وهناك عدد هائل من النصوص الدرامية العربية، التي تبرز الارتباط بين المسرح والسياسة. وبالنظر إلى تلك الكثرة العددية، سأقتصر على ذكر المسرحيات التالية: “المزيفون” لمحمود تيمور، “الهلافيت” لمحمود دياب، “حفلة سمر من أجل 5 حزيران” و”الاغتصاب” و”الملك هو الملك” و”مغامرة رأس المملوك جابر” لسعد الله ونوس، و”تراجيديا السيف الخشبي” لمحمد مسكين. هذه النصوص الدرامية المذكورة كلها مطبوعة ومتداولة.
وقد كانت العلاقة بين المسرح والسياسة موضوعا من المواضيع التي تضمنها كتاب “مسارح” لبرنار دور (Bernart Dort .Théâtres. Editions du seuil.1986).. و سأقدم في الفقرات اللاحقة مجمل ما ورد في الموضوع في هذا الكتاب. و الموضوع فيه محصور في نطاق المسرح الغربي.
جاء في الكتاب المذكور بأنه يتم الكلام كثيرا اليوم عن “مسرح سياسي” إلا أن هذا التعبير يظل غير محدد وغامضا، وربما هذا الاستعمال ليس سوى حشو (لقد جربت –يقول برنار دور- الاعتقاد بأن كل مسرح كبير هو سياسي بالضرورة، ويمكن أن يكون سياسيا حتى في حالة رفضه للسياسي).