لم يكن صباحًا عاديًا في حياة الشابة أحلام. فتلك الفتاة التي لطالما أحبّت الجامعة، كانت تشعر بثقل العالم على كتفيها الهزيلتين. في ركن صغير من حيّ فقير، حيث تقطن مع أخيها الأصغر وأمها، كانت تشعر أحلام بأن حياتها تتسرب من بين أصابعها مثل رمال ناعمة لا يمكن التحكم بها.
انفصل والداها منذ سنوات، وابتعد الأب بحثًا عن حياة جديدة، تاركًا أسرته الأولى تغرق في بحر من الفقر والاحتياج. لم تكن الشابة أحلام تملك سوى ثلاثة قمصان وبنطلونين، وقد بليت ملابسها القديمة من كثرة الاستعمال. كانت تشعر بالخجل كلما دخلت الجامعة، حيث تبدو بين زميلاتها الطالبات كغريبة، مختلفة تمامًا. زميلاتها يبدين دائمًا بأجمل الملابس، بوجوه نضرة وضحكات تملأ المكان. أما الشابة أحلام، فكانت تخفي عيونها خلف بريق كاذب من الشجاعة، تظن أنه سيخفي أوجاعها.
أما أمها، فقد كانت امرأة كادحة، تجمع قوت يومها من تنظيف المنازل لدى العائلات الغنية، أو تبيع الملابس المستعملة في السوق القريب. كان صوتها مليئًا بالحب، لكن التعب قد احتل تجاعيد وجهها. لم تستطع الأم توفير الكثير، لكن كانت تظلها بكلمات الأمل كلما استسلمت الشابة أحلام للدموع.
في أحد الأيام الباردة، عادت الشابة أحلام من الجامعة وهي ترتجف من البرد، رغم معطفها البالي. جلست في زاوية البيت، تلملم قدميها بين ذراعيها، وقررت لأول مرة أن تتمرد. قالت لوالدتها: “لن أعود إلى الجامعة بعد الآن! لا أريد هذا العذاب!” كانت كلماتها كسهم طعن قلب الأم، لكنها لم تجب. تركتها تبكي، ولم تعرف كيف تعيد الأمل إليها.
كانت الجامعة بالنسبة للشابة أحلام رمزا للفشل المستمر، ونافذة ترى من خلالها الحياة التي لن تمتلكها أبدًا. يومًا بعد يوم، تزايد اكتئابها، وغرقت في عتمة لا تنتهي. توقفت عن الدراسة تمامًا، وانغلقت على نفسها، حتى توقف الحديث مع أمها وأخيها، اللذان لم يعرفا كيف يعيدان الفرح إلى قلبها الجريح. وجاءت الليالي الطويلة، حيث تجلس وحيدة، غارقة في أفكار سوداء لا تنتهي.
في ليلة شتوية، قررت الأم أن تأخذ الشابة أحلام إلى طبيب متخصص في الأمراض النفسية، بعدما لم تعد تتحمل رؤية ابنتها تتلاشى أمام عينيها. كان الطبيب رجلاً متفهمًا، وبدأ يستمع إلى قصتها بإنصات. بكت الشابة أحلام لأول مرة أمامه، وكأن السدود التي حجزت دموعها قد انهارت. تحدثت عن الفقر، عن إحساسها بالعجز، وعن والدها الذي تخلى عنها وعن أخيها، وعن الجامعة التي أصبحت سجنًا يعذبها بمقارنتها بغيرها.
قال لها الطبيب بهدوء: “أحلام، ليس من العيب أن نتعثر، لكن العيب هو أن نستسلم. الحياة ليست عادلة، وأحيانًا تمنحنا الكثير من الندوب، لكن تلك الندوب هي التي تجعلنا أقوى”. سكت قليلاً قبل أن يضيف: “أتعرفين؟ اسمك ليس مجرد اسم، إنه دعوة للحلم، للأمل. لا تجعلي أحدًا يسرق منك حلمك، لا والدك، ولا زميلاتك في الجامعة.”
كانت الكلمات كبذرة صغيرة، زرعها الطبيب في قلبها المتعب. لم يتغير شيء بين ليلة وضحاها، لكنها بدأت تتأمل نفسها في المرآة كل صباح، محاولةً العثور على شيء جميل في عينيها المتعبة. لم تعد الجامعة سجنًا، بل أصبحت تحديًا. قررت العودة، بملابسها القديمة، ولكن بروح جديدة. بدأت تنظر إلى المستقبل بعين الحلم، وليس بعين اليأس.
ورغم أن الفقر لم يختفِ، ورغم أن والدها لم يعد، ورغم أن حياتها لم تتحسن كثيرًا، إلا أن الشابة أحلام قررت أن تواجه الحياة. لقد قررت ألا تكون مجرد ضحية، بل أن تكون قوية، صامدة، وأن تجعل من حياتها قصة تعلّم الآخرين كيف يواصلون السير، حتى عندما يبدو الطريق مظلمًا ولا نهاية له.
وفي أحد الأيام، حينما كانت تجلس في المدرج الجامعي، دخلت أستاذتها وسألت الطلبة والطالبات عن أحلامهم في المستقبل. وقفت أحلام، تلك الشابة الصامتة التي لم تكن تجرؤ على رفع يدها من قبل، وقالت بصوت ثابت: “أريد أن أكون طبيبة. أريد أن أساعد من لا يملك المال للعلاج. أريد أن أكون أملًا لأولئك الذين لم يجدوا بعد نورهم في الظلام.”
واكتشف الجميع في تلك اللحظة أن الفتاة التي كانت على حافة الموت لم تستسلم، بل عادت أقوى من ذي قبل، تحمل في قلبها نورًا لا ينطفئ، وتعرف جيدًا أن الطريق لم يكن سهلاً ولن يكون كذلك، لكنها اختارت أن تكمله بكل شجاعة، حتى النهاية.
العضو الشرفي بجمعية “منتدى معمورة” للثقافة والفن بالقنيطرة