حضّت الشريعة بمفهومها الشمولي الوسطي على التيسير ونبذت كل طرائق التعسير، واستنبط الفقهاء من روح الشريعة الغراء، ما يُثّمن ويُضّمن سلاسة مقاصدها الفيحاء…
فقه الأولويات بمنظور الشريعة الرحماء، إنما في تراتب القضايا وفق قاعدة هرمية تدريجية أعلاها الأهم ثم المهم.. وبالمقابلة تُسد كل ذريعة قد تجلب خطيئة تلو خطيئة …
ولا غرو أن يكون هذا، إذا ما استرعي في الخاطر، منهج الأسلاف ليكون حجة على الأعقاب…
فريضة الحج مثلاً وسنة العمرة كذلك، لا يراعى في كليهما الرشد عند الأكاثر من الناس، فتكرار الحج مرة كل عام، أو حتى أكثر من مرة في عمر المرء، ليس من هدي نبينا ولا من منهج الصحابة والتابعين، فقد حج النبي صلى الله عليه وسلم مرة واحدة، المعروفة بحجة الوداع… والاستنان بسنة النبي وصحابته في هذا الباب يفضي إلى لزومية الاتباع وعدم الابتداع:
﴿ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [ النساء: 26
المصريون ينفقون على الحج والعمرة ما يربو من أربعة مليارات وفق إحصائية صادرة عن الوزارات المعنية كالسياحة وغيرها… فهل هي أول مرة لجموع الحجاج والمعتمرين؟
تطبيق فريضة الحج مرة للمرء على الوجه الصحيح تجزيء، والتكرار لغير حاجة يدخله في دائرة التكلف والغلو، لاسيما وإن كان ميسوراً، فكفالته للأيتام وإعانته للفقراء وتسديد ديون الغارمين، بل إن له في التعدد مندوحة، لستر إماء وأرامل ومطلقات… أفضل عند الله من تكرار ركن مفروض لمرة واحدة، وبقيد الاستطاعة المادية والبدنية…
وثمةَ أمر آخر بالمماثلة، ذلك الذي يتعلق بزخرفة المساجد في المدر والوبر، بمغبة تبدو على الأمدين القريب والبعيد غير محمودة، فليس من عمل الأولين بشيء أن يمضي الأثرياء أو أرباب المجتمع المسلم في زخارف دور العبادات أكان المال خاصاً أو عاماً، فالتوسط الإنفاقي هنا مقتضاه الوجوب في منحيين، إعمار بيوت الله، وعدم التكلف في النفقة…
لقد جاء التحذير النبوي مبكّراً من هذه المظاهر السلبيّة في السنّة، والأحاديث في ذلك مشتهرة، ومن أصحّها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد) رواه أحمد وأبو داود، وفي لفظٍ مقارب: (من أشراط الساعة: أن يتباهى الناس في المساجد) رواه النسائي وابن خزيمة…
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
إذا زَخْرَفْتُم مَساجِدَكُم، و حَلَّيْتُم مَصاحِفَكُم، فالدَّمارُ علَيكُمْ
الراوي : أبو الدرداء | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح الجامع
وتوافقت كلمات الصحابة رضي الله عنهم للنهي عن هذه المظاهر، فقد ذكر الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الصلاة، باب بنيان المساجد، قول أنس رضي الله عنه: “يتباهون، ثم لا يعمرونها إلا قليلاً، فالتباهي بها: العناية بزخرفتها”، وقول ابن عباس رضي الله عنهما: ” لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى”، وجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: ” ما ساء عمل قوم قط، إلا زخرفوا مساجدهم”…كما جاء في صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضاً، لما وَسّع المسجد النبوي في زمانه، قال للبناء:«أكن الناس من الحر والقر، ولا تُحَمِّر ولا تُصَفِّر»