محمود ياسين قال لي:
نجيب الريحاني… أعظم ممثل في العالم
اليوم 21 يناير تحل الذكرى 136 على ميلاد الفنان الأعجوبة نجيب الريحاني، فقد ولد الرجل في مثل هذا اليوم من عام 1889، وهو العام نفسه الذي شهد مولد كل من طه حسين وعباس العقاد، وبعد ثلاثة أعوام فقط هلَّ على دنيانا سيد درويش، وفي 1897 رأى عبد الوهاب الدنيا للمرة الأولى،
وبعد ذلك بسنة واحدة فحسب (1898) أهدتنا الحياة الثلاثي الخالد أم كلثوم ويوسف وهبي وتوفيق الحكيم.
أرأيت؟ في خلال عشرة أعوام فقط أنجبت مصر عباقرة أفذاذًا، كل في مجاله، وتجلت مواهب هؤلاء جميعًا عقب ثورة 1919. (بلغ عدد سكان مصر في عام الثورة هذه نحو 12 مليون نسمة).
تلك الثورة التي قلبت الحياة في مصر رأسًا على عقب، وانتشلت الوطن من عصور التخلف العثماني لتدخله إلى بستان الحضارة الحديثة.
لذا لا عجب أن يحتفي الموقع العالمي (جوجل) بذكرى ميلاد نجيب الريحاني عام 2016، بينما نسيناه نحن كالعادة!
(باب الشعرية) بالقاهرة هو الحي الذي استقبل مولد الطفل نجيب، أما أمه فمصرية مسيحية ذات خفة ظل مشهود لها، أما أبوه فتاجر خيول من أصل عراقي، هكذا نشأ الفتى في كنف حي شعبي يضج بالبسطاء والفقراء، فتعلم فنون الرحمة والعطف على الناس.
من أسف لم نشاهد الرجل على المسرح، الذي صال وجال فيه منذ عام 1916 حتى وفاته المفاجئة في 8 يونيو من سنة 1949، لكن السينما -هذا الاختراع الساحر- احتفظت لنا بمجموعة أفلام جميلة لأهم فنان في تاريخنا الكوميدي، فصار خالدًا متجددًا من قرن إلى آخر.
أفلامه المتاحة على اليوتيوب والقنوات الفضائية هي (ياقوت/ 1934)، و(سلامة في خير/ 1937)، و(سي عمر/ 1941)، و(لعبة الست)، و(أحمر شفايف/ 1946)، و(أبو حلموس/ 1947)، وأخيرًا تحفته الخالدة (غزل البنات/ 1949).
كما أن هناك فيلمين لا يوجد لهما أثر هما (صاحب السعادة كشكش بيه/ 1931)، و(بسلامته عاوز يتجوز/ 1936).
في هذه الأفلام نكتشف عبقرية الرجل في الأداء، فهو يتكئ على البساطة والتلقائية، رغم أنه قادم من عالم المسرح، الذي يتطلب انفعالاً زائدًا وصوتا جهوريًّا،
لكن الريحاني لم يخضع لمنطق المسرح، وانحاز إلى سهولة الأداء وصدقه، لذا تسلل بيسر إلى قلوب مشاهديه، خاصة في تلك المشاهد التي تكشف عن بؤسه وقلة حيلته
(تذكر من فضلك ملامحه الحزينة وأداءه المذهل وهو يقول في غزل البنات… أنا لو من تمناتشر سنة باعلِّم كلاب… كنت دلوقت من الأعيان).
درس الريحاني اللغة الفرنسية وأتقنها، وكتب القصة السينمائية والحوار، فعرف كيف يقتنص المفارقة الساخرة ويصوغها بسخرية تقطر حكمة. ويكفيه فخرًا أنه أطلق الموهبة المتفجرة لخالد الذكر سيد درويش إذ استعان بموسيقاه وغنائه في عروضه المسرحية،
وكما قال الريحاني في الحوار الإذاعي الوحيد المسجل له إن مصر كلها أصبحت تغني (الحلوة دي قامت تعجن في الفجرية) في اليوم التالي لعرض مسرحية (ولو) التي قدمتها فرقته عام 1920.
اللافت للانتباه أن أفلامه لا تقترب من عالم السياسة، ولا تنشغل بها على الإطلاق رغم أن مصر كانت تغلي في تلك الفترة، ويبدو أن الريحاني أدرك أن الغوص في الحياة الاجتماعية للبسطاء وإلقاء الضوء على بؤسهم أكثر تأثيرًا وخلودًا من الانغماس المباشر في أتون السياسة ونارها الحارقة،
وهكذا خلت أفلامه تمامًا من الكلام عن الاحتلال البريطاني وصراعات الأحزاب ونضال المصريين من أجل الاستقلال!
أذكر أن النجم الكبير الراحل الأستاذ محمود ياسين قال لي ضمن حوار طويل أجريته معه في فيلته بالهرم قبل 28 عامًا، ونشرته آنذاك في صحيفة البيان الإماراتية، قال :
(قد يكون الريحاني أعظم ممثل في العالم).
للأسف لا يوجد في مصر تمثال واحد لنجيب الريحاني حسب علمي، وحتى فيلته التي تحولت إلى قصر ثقافة يحمل اسمه لا يحقق الحضور الذي يليق برائد الكوميديا الأول لدينا،