في ظل التحولات الإقليمية والتحديات المتزايدة تثبت التجارب أن التنمية ليست مجرد أداة اقتصادية بل هي سلاح استراتيجي يعزز منعة الدول ويمنحها القدرة على التصدي للمخاطر المختلفة. فالدول التي تعتمد على اقتصاد قوي وبنية تحتية متينة ، تكون أكثر قدرة على الحفاظ على استقلال قرارها السياسي ، والتعامل بمرونة مع التغيرات الجيوسياسية من موقع قوة وليس من موقف المتلقي للضغوط الخارجية.
إن النهج الذي تبنته الدولة المصرية خلال السنوات الأخيرة يعكس فهما عميقا لهذه الحقيقة ، حيث لم يكن التركيز على التنمية رفاهية بل ضرورة وجودية. فالمشروعات القومية الكبرى التي امتدت من تطوير البنية التحتية إلى بناء مدن جديدة وتعزيز الإنتاج المحلي ، لم تهدف فقط إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية بل كانت أيضاً جزءاً من استراتيجية أوسع لحماية الأمن القومي وتحقيق قدر أكبر من الاستقلالية.
أحد أهم أبعاد التنمية هو تحقيق الاكتفاء الذاتي ، خاصة في القطاعات الحيوية مثل الغذاء والطاقة والصناعة. فتقليل الاعتماد على الخارج في هذه المجالات يجعل الدولة أقل عرضة للابتزاز السياسي أو الاقتصادي ، ويمنحها هامشا أوسع من الحرية في اتخاذ قراراتها الاستراتيجية. لذلك فإن الاستثمار في المشروعات الزراعية والصناعية الكبرى ليس مجرد خيار اقتصادي ، بل هو خطوة في طريق تعزيز السيادة الوطنية.
إلى جانب ذلك أصبحت التنمية أداة مهمة في السياسة الخارجية ، حيث لم تعد العلاقات بين الدول تُبنى فقط على المصالح السياسية المباشرة بل بات التعاون الاقتصادي والمشروعات المشتركة وسيلة فعالة لتعزيز النفوذ وتحقيق الاستقرار. فعندما تستثمر دولة ما في مشروعات البنية التحتية والطاقة في محيطها الإقليمي فإنها لا تكتفي بجني العوائد الاقتصادية ، بل تخلق أيضا شبكة من المصالح المشتركة التي تقلل من فرص الصراعات ، وتعزز التعاون بدلا من المواجهة.
في النهاية لا يمكن الحديث عن التنمية بمعزل عن الاستقرار السياسي والاجتماعي ، إذ إن التنمية الناجحة هي تلك التي يشعر المواطنون بأثرها المباشر في حياتهم ، من خلال تحسين مستوى المعيشة وتوفير فرص العمل وتعزيز الخدمات الأساسية. فكلما زاد شعور المواطن بأنه جزء من عملية التنمية زادت قدرته على المشاركة الإيجابية في بناء بلده، ما يخلق حصانة مجتمعية ضد أي محاولات لزعزعة الاستقرار الداخلي.
إن مواجهة التحديات الإقليمية والدولية لم تعد تعتمد فقط على القوة العسكرية أو التحركات الدبلوماسية، بل باتت التنمية في حد ذاتها سلاحا استراتيجيا يمنح الدول القدرة على حماية مصالحها، وتعزيز استقلالها، وضمان مستقبل أكثر استقرارا لشعوبها.