التدخل التركي في شؤون الدول العربية له ثلاثة أوجه. وجه اقتصادي وآخر عقائدي وثالث تاريخي، وكل وجه يتداخل مع الوجهين الآخرين في اللعبة السياسية والدبلوماسية التي تبطن ساعة وتخفي أخرى، بينما الأمر
واضح لمن يقرأ تسلسل الأحداث العامة منذ عام 1998، والخاصة منذ عام 2011؛ أي عندما طال ما يُسمّى ب «الربيع العربي» الأراضي السورية والدولة السورية.
في عام 1998 وقّعت تركيا وسوريا ما يُعرف ب «اتفاق أضنة»؛ بعد توتّر العلاقات بين البلدين إلى درجة أنذرت بمواجهة عسكرية شاملة؛ بسبب إيواء سوريا لمقاتلي «حزب العمال الكردستاني»، الذي تصنّفه تركيا إرهابياً،
وكانت معظم بنود الاتفاق لمصلحة تركيا، ومن ضمنها بندٌ يقول: (يفهم الجانب السوري أن إخفاقه في اتخاذ التدابير والواجبات الأمنية، المنصوص عليها في هذا الاتفاق، يعطي تركيا الحق في اتخاذ جميع الإجراءات الأمنية اللازمة داخل الأراضي السورية حتى عمق 5 كيلومترات).
وبعد انطلاق المعارك العسكرية في سوريا، وانتشار مقاتلي «داعش» على مساحات واسعة، ظهر جسم عسكري بعنوان: «قوات حماية الشعب»؛ التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا، والمدعوم من الولايات المتحدة، وبدأ بمحاربة تنظيم «داعش»، وحقّق انتصارات عليه، لكن تركيا تزعم أن هذه الوحدات هي امتداد ل«حزب العمال الكردستاني»، وبما أنها موجودة على الأراضي السورية،
فإن ذلك يُعد خرقاً ل«اتفاق أضنة» بين تركيا وسوريا، الذي يترتب عليه دخول تركيا للأراضي السورية بعمق خمسة كيلومترات؛ لكن أطماع تركيا، جعلت جيشها يتوغّل بعمق تجاوز العشرين كيلومتراً، ويحتل بلدات سورية عدة، وهذا ما فعله في الأيام السابقة، وهنا تداخل الوجه السياسي بالتاريخي المغلف بالدفاع عن أمن تركيا القومي، أما الأمر العقائدي؛ فتمثل في تسهيل تركيا لمرور مقاتلي تنظيم «داعش»
وإخوته من الأراضي التركية نحو سوريا، وبعض التقارير قالت: إن الأمر تجاوز التسهيل إلى التسليح والتدريب. وما يؤكد الأمر العقائدي زيارة الرئيس التركي أردوغان لمصر بعد تولي الرئيس محمد مرسي رئاسة مصر، وهو المعروف بانتمائه لجماعة «الإخوان المسلمين»، حتى أن الأخير فتح «باب الجهاد»؛ للقتال في سوريا.
أما التدخل التركي في ليبيا فله أكثر من وجه، فأردوغان يريد مناكفة مصر، وخاصة النظام القائم الذي جاء بديلاً عن نظام مرسي، ولهذا توترت العلاقات بين تركيا من جهة ومصر وعدد من دول الخليج من جهة أخرى.
لكن عين أردوغان على ليبيا قد تكون أبعد من المناكفة، فهناك تقارير تتحدث عن أن المقاولين الأتراك حصلوا على مشاريع في ليبيا قيمتها 29 مليار دولار تقريباً، وتدخّل تركيا العسكري يدّعي حماية تلك المشاريع والمصالح، ولم يفكّر أردوغان أن تدخله يمكن أن يدوّل الأزمة الليبية، وهذا ما حذّر منه غسان سلامة مبعوث الأمم المتحدة، في تصريح لصحيفة «لوموند» الفرنسية؛ حيث قال: إن الاتفاق بين حكومة السراج وتركيا؛ يُشكّل تصعيداً للنزاع، ويسهم في تدويله.
الحديث عن الطموح التركي ليس عبثاً، وهو طموح تاريخي مغلف بالاقتصادي والسياسي والوطني والعقائدي، حتى عندما تنتقد تركيا سياسات الكيان الصهيوني ضد الفلسطينيين،
فإنها تستخدم ذلك للتمويه وتغطية حقيقة علاقاتها الاقتصادية والسياسية والأمنية مع الكيان الصهيوني.
ولو تصرفت كل إمبراطورية مثل تركيا لوجدنا العالم كله ساحة نزاع دموية، لهذا فإن على تركيا أن تفهم أن عصر الإمبراطوريات انتهى، وليس من الضرورة تسيير وحدات عسكرية؛ للمحافظة على المشاريع التجارية في ليبيا،
وليس من الضرورة احتلال شمالي سوريا؛ لمناكفة دول أخرى أو تحقيق أطماع تاريخية عفي عليها الزمن، فالكيدية ليست طريقة للتعامل بين الدول، خاصة في ساحتين متفجّرتين؛ وهما: سوريا وليبيا. “الآن أصبح جليًا أكثر من أي وقت أن التحرك التركي مؤكد وليس فقط واردًا… وهو ما يعني أن حربًا شرسة ستشهدها ليبيا…
لو حصل هذا السيناريو فإن المغرب العربي سيصبح في خطر حقيقي وفي حالة حرب وليس فقط ليبيا، خصوصًا أن تونس تعاني من هشاشة سياسية وانقسام، إضافة إلى أن ليبيا تمثل مصدر توازن اقتصادي لتونس. والمشكلة الأكبر هي أن الإرهاب سيعود بقوة وسيكون ورقة تركيا الرابحة في المنطقة. وحتى ما شهدته تونس من خطوات في مسار الانتقال الديمقراطي سيتراجع وستعرف المنطقة حالة طوارئ حقيقية”.
يُخطِئ من يعتقد أن الحرب المُستَعِرة حاليًّا في ليبيا هي بين السراج وحفتر وقوّاتهما، إنّه صراع بين قِوى دوليّة وإقليميّة، والحسم
لا يُمكن أن يأتي إلا من خِلال توافق دولي، وربّما هذا ما يُفسّر دعوة السيّدة أنجيلا ميركل، المُستشارة الألمانيّة، إلى اجتماعٍ حول ليبيا في برلين في الأيّام المقبلة دعت فيه الدّول العُظمى إلى جانب مِصر وأمريكا والجزائر وتونس وقطر والإمارات وإيطاليا، وتركيا، وفرنسا، واليونان، وقبرص، للحُضور للبحث عن حُلولٍ وتَسوياتٍ لهذه الأزَمَة.
الرئيس أردوغان يتّهم روسيا بدعم المشير حفتر والوقوف في خندقه جَنبًا إلى جنب مع مِصر والإمارات والسعوديّة، وقال إنّ شركة أمنيّة روسيّة اسمها “فاغنر” تقوم بإرسال مُقاتلين مُرتزقة للقِتال إلى جانب حفتر، ويُخطّط لإرسال وفد إلى موسكو للتّباحث مع المسؤولين الروس حول هذه المَسألة إلى جانب مسائل أُخرى في هذا المِلف، وشركة “فاغنر” هذه شبيهة بشركة “بلاك ووتر” الأمريكيّة إذا صحّت هذه الاتّهامات.
تفعيل تركيا لمُذكّرتي التّفاهم التي وقّعها الرئيس أردوغان مع نظيره السراج، حيث تَنُص الأُولى على إعادة ترسيم الحُدود البحريّة في المتوسّط وبما
يُعطي تركيا حصّةً كبيرةً في احتِياطات الغاز، والثانية أمنيّة عسكريّة أبرز بُنودها التّعاون الاستخباريّ وإرسال تركيا معدّات عسكريّة وجُنودًا إذا تقدّمت حُكومة الوفاق بطَلبٍ في هذا الخُصوص، هذا التّفعيل قد يُشعِل فتيل حرب ضَروس في ليبيا قد تتطابق مع نظيرتها السوريّة، إن لم يَكُن أخطر.
يَصعُب علينا التكهّن بِما يُمكن أن تتطوّر إليه الأوضاع على الأرض الليبيّة، فالأنباء مُتضاربة، ولكن إذا صحّت التّقارير التي تُؤكّد أنّ روسيا تدعم المشير حفتر، وأمريكا على الحِياد، فإنّ هذا ليس فألًا جيّدًا للسيّد فايز السراج وداعِميه،
بالنّظر إلى الدّور الذي لَعِبه الرئيس بوتين في تغيير مُعادلات القوّة على الأرض السوريّة بعد تدخّل قوّاته وإلقاء كُل ثُقله إلى جانب الجيش العربي السوري والرئيس بشار الأسد، ومِن المُفارقة أنّ تركيا كانت، وما زالت، المُتدخّل الأكبر سِياسيًّا وعَسكريًّا في الأزَمَة السوريّة أيضًا.
“هذه السياسة التركية تؤدي بالفعل إلى تحقيق مكاسب، ولكنها في الوقت نفسه تعد مغامرة ومخاطرة كبيرة جدا من قبلها، خاصة لو أن الأطراف المعارضة لهذا التدخل التركي في ليبيا بادرت بإطلاق النار. وهنا قد تندلع حرب إقليمية
: “الروس استطاعوا بالفعل تهدئة الوضع عبر دعوة طرفي الصراع لإعلان هدنة ثم دعوتهما لموسكو للتشاور لتثبيت وقف إطلاق النار. لقد تفاوضوا هم أيضا مع الأتراك وأقنعوهم بإمكانية استنساخ اتفاقياتهم وصفقاتهم المشتركة في سورية ببلادنا. ولكن ما يعيق للآن تنفيذ تلك الصفقة وما يفسد أي مبادرة للحل داخل ليبيا هو عدم توافر الإرادة لدى طرفي الصراع كي يقررا الدخول بالمفاوضات السياسية”.
أن القضية الأهم هي “التخلص من ترسانة السلاح الموجودة بليبيا، والتي تقدرها الأمم المتحدة بأكثر من 26 مليون قطعة سلاح، وإن كان الرقم باعتقادي أكثر بكثير لأن الضخ لازال مستمرا. هذا الكم من السلاح مع قلة عدد السكان واحتمالية مواجهتنا لفجوة سكانية بعد عشر سنوات يعد كارثة أطالب بالانتباه لها، إلى جانب مشاريع فك أجزاء من التراب الليبي، التي تستهدفنا من قبل إسرائيل وبعض الدول الأفريقية”،
“القضية الآن ليست من أخطا ومن أصاب، الدولة فُقِدتْ في 2011 والمجتمع تهلهل بعد 2014، والآن الوطن قد يضيع … لذا نحن بالفعل نراهن على وعي المجتمع الليبي بأن يسمح بإيجاد تيار ثالث يمثل الليبيين وفي القلب منه المرأة والشباب، كونهما أكثر المتضررين من الحرب… وأتمنى أن ينجح هذا الوعي في إزاحة كل من ساهم في تخريب البلاد ورهن مقدراتها للخارج عبر صفقات مشبوهة”.
دكتور القانون العام ومحكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان