منذ أن أتممت قراءة كتاب ” نهج البلاغة ” فى رمضان الماضى وأنا مشغول بالتفكير فى الطريقة التى أكتب بها عن بلاغة الإمام على رضى الله عنه، فالكتاب ممتع حقا ومادته دسمة ، لكنه ـ على ضخامة حجمه ـ يضيق عن عبقرية شخصية الإمام، وكثيرا ما أجد فيما أسمع وأشاهد وأطالع مالا أجد فى الكتاب فأسأل نفسى: هل أكتب عن الكتاب أم أكتب عن الإمام، وأخيرا هدانى الله إلى معادلة تجمع بين الخيرين، أقدم اليوم لمحات سريعة عن الكتاب ، وفى الأسبوع القادم إن شاء الله أكتب عن نفحات الإمام علي بما يفتح الله به .
الكتاب بعنوان” نهج البلاغة .. مجموع ما اختاره الشريف الرضى من كلام أمير المؤمنين سيدنا على بن أبى طالب عليه السلام ” شرح الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، والطبعة التى بين يدى صادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ( سلسلة الذخائر) عام 2004 ، وهو سفر ضخم تزيد صفحاته عن 750 صفحة من القطع الكبير، ويقع فى ثلاثة أجزاء مع مقدمة لجامعه الشريف الرضى، ومقدمة لشارحه الإمام محمد عبده، بالإضافة إلى دراسة من مقدم الطبعة الدكتور مصطفى لبيب عبدالغنى أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب جامعة القاهرة .
يتضمن الكتاب مختارات من خطب الإمام على ووصاياه وأقواله ورسائله وإجاباته على بعض السائلين، وكلها تعبرعن شخصيته ومواقفه ورؤيته لما مر به من أحداث، كما تعبرعن بلاغته وفصاحته، فقد وصف بأنه أمير بلغاء العرب وسيد حكماء المسلمين، ناهيك عما قيل عن شجاعته وورعه، فقد تربى فى بيت النبى وتزوج ابنته وتخلق بأخلاقه، وأخذ عنه الدين فكان أفقه أصحابه وأقربهم إلى الصواب، حتى قال عنه سيدنا عمر رضى الله عنه ” لابقيت لمعضلة ليس لها أبا الحسن ” .
وجامع مادة الكتاب هو الشاعر الأديب المعروف الشريف الرضى ( 359 ـ 404 هجرية )، الذى يمتد نسبه إلى الإمام الحسين رضى الله عنه، اشتغل بالعلم والأدب ففاق أهل زمانه فى النحو واللغة وأصول الدين، وقد ذكر فى مقدمته أنه خصص الجزء الأول من الكتاب لخطب الإمام على وأوامره، والجزء الثانى لرسائله، والثالث لحكمه ومواعظه، ” فأجمعت بتوفيق الله تعالى على الابتداء باختيار محاسن الخطب، ثم محاسن الكتب، ثم محاسن الحكم والأدب ” .
وذكرالشيخ محمد عبده فى مقدمته أن كلام الإمام على ” هو أشرف الكلام وأبلغه بعد كلام الله تعالى وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم، وأغزره مادة وأرفعه أسلوبا، وأجمعه لجلائل المعانى “، ولعل تفقهه فى هذا الكتاب كان أحد محفزات دعوته إلى تحرير العقل المسلم من قيد التقليد، وفهم الدين على طريق سلف الأمة ومن ينابيعه الأولى، وإصلاح أساليب اللغة العربية .
أما دراسة الدكتور مصطفى لبيب عبدالغنى حول الكتاب فقد أثبتت أن النصوص التى تضمنها، والتى تقدم نماذج للبلاغة العربية فى ذروتها، تكشف أيضا عن مجمل فكر الإمام وثوابت الرؤية الإسلامية عنده، وأول هذه الثوابت الولاء لفطرة العقل السليم وعدم الانسياق وراء الهوى، أو التعصب لرأى دون سند من يقين، والنظر إلى ” العصبية ” باعتبارها داء يصيب العقلاء فيجرهم إلى الشر والحماقة، والدعوة إلى طلب الحكمة من أى طريق جاءت، ” فالحكمة ضالة المؤمن ” .
وأهل المعرفة الصحيحة هم الذين لايجمدون على مواقف متصلبة، ولا يعاندون ويرفضون الحوارويتنكرون لروح الإسلام السمحة، ولا الذين تستعبدهم الحروف فيصادرون حق الآخرين فى الاجتهاد لفهم النص والتعبيرعن هذا الفهم دون خوف، يقول الإمام علي: ” القرآن إنما هو خط مستور بين الدفتين لاينطق بلسان، ولابد له من ترجمان، وإنما ينطق عنه الرجال ” .
وأساس هذا الموقف أن تتوافر إرادة المعرفة، وتصدق مجاهدة النفس فى طلب الحق، والقاعدة عند الإمام ” فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه “، ويحرص سيدنا على فى وصيته لابنه الحسن على تأكيد دور التواصل العقلى فى تأسيس الفكر الصحيح، وأن الحق لايملكه رجل واحد ولا جيل واحد، وأن فى تجاهل الميراث العقلى للسىابقين تضييعا للصواب، يقول الإمام: ” إنى وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلى، فقد نظرت فى أعمالهم وفكرت فى أخبارهم، وسرت فى آثارهم حتى عدت كأحدهم، بل كأنى بما انتهى إلى من أمورهم قد عمرت من أولهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره، ونفعه من ضره، فاستخلصت لك من كل أمر تحيله، وتوخيت لك جميله، وصرفت عنك مجهوله ” .
وإذا كان ” العلم وراثة كريمة ” كما يقول الإمام على بحق، فإنه وراثة لأنوار الفكر والمعرفة وليس وراثة عصبية النسب والدم، وراثة بعيدة عن دعاوى الاصطفاء والتمايز العرقى، هذا المعنى الإنسانى العميق والراسخ فى عقيدة الإسلام يظهر فى قول الإمام : ” إن أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاءوا به، وإن ولى محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته، وإن عدو محمد من عصى الله وإن قربت قرابته، وإن أكرم الحسب حسن الخلق “.
ولتقرير حرية الاختيار والإرادة وتأكيد المسئولية الإنسانية بعيدا عن مفهوم “الجبر” والتصور الخاطئ للقضاء والقدر يقول الإمام على: ” ويحك ! لعلك ظننت قدرا لازما وقضاء حاتما، ولو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد، إن الله سبحانه وتعالى أمر عباده تخييرا ونهاهم تحذيرا، ولم يرسل الأنبياء لعبا، ولم ينزل الكتاب للعباد عبثا، ولا خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا، (ذلك ظن الذين كفروا ) “.