.وتأتي ذكرى العام الهجري الجديد لتذكرنا دائما باننا في حاجة دائمة الى الهجرة ..وتدفعنا الى المسارعة الى افضل واجل أنواع الهجرات ..الهجرة الى الله ورسوله ..الهجرة الى دين الله وفي دين الله ومن اجل دين الله ليزداد المرء سموا وعلوا في الأرض وبين العالمين وتتحقق اجمل صور الإنسانية كما أرادها الله في مجتمع يسوده الامن وتظلله السكينة وتكتنف شمائله الرحمة وينعم افراده براحة البال والضمير.. ومن الخطأ وقصور الفهم ان يظن البعض ان الاحتفاء بالهجرة هو فقط مجرد تذكر ما كان من احداث وعذابات والام في ندوة او خطبة او لقاء عابر يفرضه التاريخ وحلول موعد الذكرى ولكن المسألة اكبر واعمق واسمى لاكتشاف ما وراء الاحداث ودلائل الخيرات فيما كان ..وما تبعه من احداث والبحث عن بصيص امل وشعاع نور ونقطة انطلاق الى الامام لمواجهة ما يستجد من احداث الزمان وصروف الزمان .. وقد اعجبني ما ذهب اليه بعض العلماء في رؤيتهم لمعنى المناسبة الدينية وتكرارها كل عام فليستِ العبرة من أحداث المسيرة الشريفة التي نلتقطها هذا العام كالعبرة التي التقطناها في الأعوام الماضية وكل وقت له عطاؤه من منهج الله فهو يُعطي كل جيلٍ عطاءً على قدر استعداده في الصفاء والفهم والمدارسة.
ولعل في هذا إشارة الى ضرورة اصلاح الخلل في التعامل مع الاحداث التاريخية وضرورة العمل على استنباط معاني جديدة والبحث عن اشراقات وراء المواقف والتصرفات لكبار الصحابة والتابعين وأيضا معنى ودلالات مواقف قوى الكفر والضلال وطرق مواجهتهم للحق وكيف يمكن ان نفهم عقليات التمرد على منهج الله وكيف نواجهها مواجهة صحيحة بناء على معطيات او مقدمات واقعية والتي ستقود بلا ادني شك الى نتائج طيبة ومرجوة وتحقق الصالح العام ..
أي مراقب للساحة الفكرية والدعوية سيجد حالة من الجمود تتمثل في ترديد وقائع وشريط الاحداث كما هي يحفظون تسلسل الاحداث والأماكن والوقائع وماذا قال زيد وماذا فعل عمرو ويجترون في كل المرة الكلام نفسه وهو كلام صحيح وطيب.. ولكن السامع والمشاهد قد مل من الرتابة وعدم اوغياب تقديم جديد او توضيح موقف او استلهام رؤية واستشراف ملامح للخروج من مأزق او معضلة ما ولا اطمع في القول استنباط منهج او وضع نظرية او التأصيل لها وفقا لمعطيات العلم الحديث او تفسيرات اهل الحل والعقد او دارسي المجتمعات والتحولات البشرية الكبرى فمن شأن هذه العلوم ان تكشف لنا عن مكامن النور وكنوز الحكمة التي خفيف على أجيال سابقة وفي عصور غابرة لم يكن فيها للتقدم العلمي دور كالذي يحدث في العصر الحديث..
يؤسفنى القول بالمناسبة ان أصحاب الفكر الضال والمناهج المنحرفة الشرقية والغربية سواء كانوا يساريين واشتراكيين وليبراليين وأصحاب الطريق الثالث او الرابع وغير ذلك من مسميات على السواء وجدوا من يؤصل لفكرهم ويزينه في عقول وقلوب أبناء المسلمين بل ويفرضه ويجعل له الغلبة على المنهج الإسلامي..والادهي من ذلك ان تشارك العقول الإسلامية في هذه المأساة بل ويتفوقوا على الغربيين في ضرب المنهج الإسلامي.. ومن عجيب انهم لم يسهموا في الكشف عن مكامن النور في التوجهات الإسلامية سواء العامة او الخاصة ولم يخدموها بقدر الحماس والدفاع عن الفكرة الغربية والتغريبية ..
وبالتالي كانوا معاول هدم للفكرة الإسلامية رغم انهم ينتسبون اليها بكل اسف شديد ويحملون أسماء وصفات إسلامية.. فمن المدهش ان تجد أسماء مفكرين كبار كتبوا ودافعوا وروجوا لافكار ماركس وانجلز واشباههم وشنوا هجوما على الفكرة الاسلامية وهم ربما لم يقراوها في الأساس حتى وان اطلعوا عليها فلاغراض أخرى ..
ولا يخفى ان ذلك قد تم في ظل فترات كان هناك تغييب متعمد واستبعاد مقصود للاسلام ليس في بلد بعينه ولكن في كل البلاد الإسلامية عامة -ورغبة في ازوائه عن المشاركة في صياغة حياة المسلمين انفسهم وفي ظل حملات تخويف من الإسلام والمسلمين وتهويل من سيطرة الإسلام على مفاصل الحياة وبالتالي كان العمل والتركيز على حصر دور الإسلام داخل جدران المساجد والا يتجاوزها وتكريس فكرة الدعاة التقليديين الذين يؤدون ما تصلح به إقامة الشعائر وفقط ..وبالتالي عزل الدين عن شئون الحياة والمستقبل..وهذه هي الطامة الكبرى ..
ولا ابالغ في القول بان المجتمعات الإسلامية تحصد جناية هذه التوجهات في استبعاد الدين عن الحياة والتركيز على كونه شعائريا فقط .. ولك ان تتخيل الموقف في ظل الهجمة الحالية للترويج بل وشرعنة الفسق والفجور والشذوذ وجعله حقا من حقوق الانسان .. حرب ضارية على الفضائل وإشاعة الفاحشة بكل السبل الإعلامية والتعليمية والترفيهية والفنية وبكل ما اوتي القوم من وسائل للاختراق والهيمنة والسيطرة والعبث في عقول الشباب في أي مكان..
موجة الانحلال القادمة وما يصاحبها من الحاد وفجور ..تذكرنا مباشرة باخلاق الجاهلية الأولى وتنقلنا الى عصور ما قبل الإسلام .. تذكرنا بالاصل الذي جاء من اجله وبعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم ..”” انما بعثت لاتمم مكارم الاخلاق ” رسول جاء ليخرج الناس من الظلمات الى النور .. ليطهركم تطهيرا..
امامنا منهج إسلامي واضح في مواجهة كل قوى الشر والطغيان والفسق والفجور والعصيان واجهها النبي صلى الله عليه وسلم واصحابه رغم قوتهم الهينة وعددهم القليل واستطاعوا تأسيس دولة إسلامية كبرى بل امبراطورية عظمي من غانا الى فرغانة.. وكانت رحلة بناء الدولة الإسلامية قائمة من اول يوم على العلم والعقل الحرية والكرامة العدل والمساواة. والتاكيد على أن الإسلام انما جاء ليحرر الجميع من الخوف ويمنحهم الكرامة الإنسانية جميعا.
المسلمون اليوم مطالبون بالهجرة الحقيقية ليخرجوا من الحالة التي وصلوا اليها او التي اوصلهم اليها الأعداء قبل الأصدقاء .. الهجرة بمعناها الواسع التي أشار اليها الرسول صلى الله عليه وسلم حين سئل : ما أفضل الهجرة؟ قال: (من هجر ما حرم الله) وعرف المهاجر بقوله: (والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب) او بتعبير اخر (والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه).. وبذلك فالممتنعون عن أكل الربا مهاجرون إلى الله والتائب عن الخمر تائب إلى ربه مهاجر إليه والمنتقلون من موقع كانوا فيه من عصاة الله إلى موقع يكونون فيه في طاعة الله مهاجرون إلى الله ورسوله والمتحولون من حرفة لا ترضي الله ورسوله إلى حرفة يبتغون فيها رضا الله ورسوله مهاجرون في سبيل الله وكل من يترك علاقة فيها إثم وسخط من الله إلى علاقة فيها طاعة ورضا من الله هو مهاجر في سبيله وكل هجرة لسلوك لا يرعى فيه المرء حق الناس وحق الله إلى سلوك يرعى فيه كل الحقوق هي هجرة إلى الله ورسوله وكل ترك لمكان فيه معصية لله إلى مكان فيه طاعته هو ترك في سبيل الله وهجرة إليه..
لذلك لم يكن غريبا ان يعتبر الدارسون للهجرة في الإسلام انها من أهم عناصر القوة.. والحماية من الضعف في الأُمّة الإسلاميّة لانها تخلص المؤمنين من الفقر والخوف وتعزز قوّتهم الدِّفاعيّة سواءً في السِّلم أو الحرب وقد أشار الله -تعالى- إلى هذه المعاني بقوله: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً).
وان الهجرة توفر القوة والمَنعة وتساعد في تحقيق الإنجازات مصداقا لقوله تعالى:(وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)..والهجرة تساهم في تحقيق الغايّة من استمراريّة الخلق من خلال تجديد الأفكار والأشخاص والعلاقات الإنسانيّة والإنتاج كما تُساعد على التجديد المُستمر وتحصين الجبهة الداخليّة..
** عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم يقول: “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه”.
** من بديع ما قاله امام الدعاة فضيلة الشيخ الشعراوي رضوان الله عليه عن الاحتفال بالهجرة النبوية الشريفة : ما أحسن ان نحي مناسبات الإسلام الضخمة ..ولكن المسلمين الان اكتفوا للاسلام بان يحيوا مناسباته وكأن الإسلام في حاجة الى ان يعيش بهم والناس ليسوا في حاجة الى ان يعيشوا بالإسلام ..ما أغنى الإسلام عن ان يحيا بنا ولكن ما احوجنا نحن الى ان نحيا بالإسلام .. نحن في العالم الإسلامي نحسن استقبال المناسبة ولكننا لا نحسن معايشة المناسبة ..
وقال أيضا :نلاحظ في هذه الهجرة أمورًا عجيبة لا يمكن أن نجعلها من تخطيط البشر.. فالرسول صلى الله عليه وسلم هاجر إلى الطائف يطلبُ النصير فعاد كسير النفس وقد أفرغ شحنة رجائه في نصرة الخلق هناك ولجأ إلى الله وحده يقول: «إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أُبالي».وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى الحبشة لتكون مهجرًا آمنًا، وهو الذي لم يقرأ تاريخ الشعوب ولا سياستها، ولكنه قال لأصحابه: «لأن فيها ملكًا لا يظلم عنده أحد»، وصدق الواقع رسول الله صلى الله عليه وسلم تأكيدًا بأنه لا ينطق عن الهوى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى..إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3-4].
كل عام وانتم والأمة الإسلامية بالف خير وسلام ..
والله المستعان ..
megahedkh@hotmail.com