مِن مَجْمُوعَتِه القصصية ” أَوْجَاع أُخْرَى للبحر”
إلتَقَيَا عَلَى شاطئهِ فِى ليلةِ صيفٍ سَاحِرَةٍ ’ كَانَا يَسِيرَان وحيدينِ وَلَكِن فِى اتِّجَاهَيْن مُتَقَابِلَيْن , هُوَ عَلَى قدميهِ الواهنتين وَهَى عَلَى كُرسِيّها الْمُتَحَرِّك الَّذِى يَحْمِلُهَا وَيَسِير بِهَا مُنْذُ سَنَواتٍ عَنْ طِيبِ خاطِرٍ رُبَّمَا إشْفَاقًا عَلَيْهَا وَرُبَّمَا إعْجَابًا بِصَبرِها
كَانَا يَسِيرَان مُتَقَابِلَيْن كلُّ مِنْهُمَا عَينَاهُ مُحَدِّقتَانِ بعُمق الْبَحْر كَمَن يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ فقيدهِ الَّذِى غاب’ وَفِكرُهُ مُعلَّقٌ بِأَحْزَانِه وذكرياته , وَفِى لَحْظَة فَارَقَه كَادَا أَنْ يَصطَدِما بِبَعْضِهِمَا لَوْلَا العنايةُ الْقَدَرِيَّة الَّتِى أَلْهَمْت “حسام” فِى اللَّحْظَة الْأَخِيرَةِ إنْ ينتبهَ لِمَا هُوَ مقبلٌ عَلَيْه فيُمسِكُ بِأَطْرَاف الكرسىّ فِى اللَّحْظَة الْمُنَاسِبَة . . .
- مَعْذِرَةً سَيِّدَتى لَمْ أَكُنْ أَقْصِد . . . لَكِنَّهَا غفوةُ الْبَحْر وقسوةُ أنسامهِ الحزينة .
- لَا عليكَ ياأستاذ . . . . ؟
- حُسَام . . . أِسْمِى حُسَام . . . وأنتِ . . . ؟
- أَنَا حَسْنَاء . . . لَا عَلَيْكَ . . . فَكَمَا قلتَ أنتَ تَمَامًا . . . هُو البحرُ وذكرياتُه وأمواجُه الْقَاسِيَة
- إذْن . . . فالبحرُ بِكُلّ مايحملُهُ ُ مِنْ أَسْرَارِ وأسوار هُو قَاسِمنَا الْمُشْتَرَك
- نَعَم . . هُو البحرُ . . . يَسلِبُنا ذَوَاتِنَا كُلَّمَا مَرَرْنَا بِهِ كَمَا سَلبَنا بِالْأَمْس أَحْبَابَنَا وأيقُونَاتِ قُلُوبِنَا . . .
- هَل تَأذَنى لِى أَن أحملَ عنكِ قَلِيلًا وَأَدْفَع هَذَا الكُرسِىَّ المحظوظِ بَدَلًا منكِ
- تقصدُ الكرسىَّ التَّعِيسَ كصاحبتهِ . . . وَإِن كنتُ أدركُ أننى سَأَكُون عبئاً عليكَ . . . لَكِن . . . تفضّلْ
- أَشْكُرُك . . .
وابتسم ابتسامةً خَفِيفَة . . .
وَمِنْ هُنَا . . . سَارًّا مَعًا فِى اتجاهٍ واحدٍ بَعْد اتِّجَاهَيْن . . . وخيّمَ عَلَى مَسِيرِهِما صمتٌ حَزِينٌ . . .
اِخْتَرَق ” حُسَام ” حاجزَ هَذَا الصَّمْت . . فَفَتَح قَلْبَهُ كَانَ لَمْ يَفتَحْهُ مِنْ قِبَلِ فَفَاض بحديثهِ حَوْل الْبَحْر ِ وأسرارهِ وأهوالِهِ . . . وَكَيْف أَنَّهُُ فَقَدْ حَبيبَتَهُ ُ وَزوجَتَهُ هُنَا وَعَلَى نَفْس الشَّاطِئ الْمُجْرِم وَفِى جَوْفِ هَذَا الْبَحْرَ الْغَادِر ذَاتَ يَوْمٍ مُنْذُ سَنَواتٍ .
- كُنَّا نسبحُ هُنَاك . . .
وأشارَ بيدهِ إلَى مَكَان مَا فِى الْبَحْرِ , كُنَّا نسبحُ فِى فَرَحُة عارِمَة نَتَسَابَق ذِهَابًا وَعَوْدِة ’ لَمْ يَكُنْ الموتُ يخطرُ ببالنا فاللحظاتُ رَائِعَة وَالْقُلُوب صَافِيَة ونسائمُ السَّعَادَة تَحتَوِينا
وفجاةً وَبِلَا مُقَدِّمَات يفتحُ البحرُ فَاهُ ويخطفُ مِنى ” مُنى ” الزَّوْجَة والصديقة ’ نَعَم غَرقَتْ ” مُنى ” وَلَم أقْوَ عَلَى إنْقَاذَهَا بَل كِدتُّ أَن أغرقَ مَعَهَا لَوْلَا أَنْ هُنَاكَ بقيةٌ مِنْ عُمُر . . .
تَوَقَّف ” حُسَام ” عَن بَوحِهِ قَلِيلًا مُمعِنَاً النَّظَرَ إلَى الْبَحْرِ وَدُمُوعُ “حسناء ” تُشَارِكُهُ النَّظَر وتقاسمه الإِمْعَان
ثُمّ واصلَ السَّيْرَ بِها . . . لتكملَ ” حَسْنَاء ” الْحَدِيث . . .
يالَها مِنْ صُدفةٍ غَرِيبَةٍ . . . فَأَنَا أَيْضًا فقدتُّ زوجى وصديقى ” مراد” هُنَا وَعَلَى نَفْس الشَّاطِئ حَيْث كُنَّا نلهو ونسبحُ مَعًا فِى أَيَّام زواجِنا الْأُولَى . . . فقدتُّهُ . . . وَفقَدتُّ قدمىَ مَعَهُ حَيْثُ فَقَدَتْ قُدْرَتَهَا عَلَى الْحَرَكَةِ بَعْدَ أَنْ ضَرَبتْنا بَعِيدًا عَنْ الشَّاطِئ موجةُ قَاسِيَة لَمْ أَدْرِ بَعْدَهَا إلَّا وَأَنَا فِى الْمُسْتَشْفَى . . . وَمَع أوّل لَحْظَة إفَاقَةٍ صَرَخْتُ صرختُ بَاحِثَه عَن ” مُرَاد
- أَيْن أين مُرَاد ؟ فَلَم يجبْنى أَحَدٌ . . . وَلَكِنِّى وَجَدْتُّ الْإِجَابَة فِى عُيُونِهِم وَفِى اِنْسِيابٌِ دُمُوعُهُم . . . لَقَد غَرَق مُرَاد وَغَرَقَت مَعَه أَحْلَامُنَا الَّتِى شيدناها مَعًا . . . مَات “مراد” وَلَمْ يَتْرُكْ لِى سِوَى اللَّوْعَةَ والدموعَ والذكريات ’ وَبَعْد فَتْرَة قَصِيرَة قَضَيْتُهَا فِى الْمُسْتَشْفَى خَرجْتُ بَعْدَهَا عَلَى هَذَا الكُرسِىِّ التعيس الَّذِى استَمَدَّ تعاسَتَهُ مِنِّى بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَنِى الْأَطِبَّاء بِإِصَابَتِى بِصَدْمَةٍ عصبيةٍ حَادَّة أَفقَدتْنِى الْقُدْرَةَ عَلَى الْحَرَكَةِ غَيْرَ أَنَّهُمْ أَبِقُوا لِى عَلَى بَصِيص مِنَ أَمَلٍ بإمكَانِيةِ تَحسُّنِ الْحَالَة تَدْرِيجِيّا مَع الِاسْتِقْرَار النَّفسِىِّ وَتَمارينِ الْعِلَاجِ الطبيعى . . . وهاأنذا أتحسَّسُ هَذَا التحسنَ التدريجىَّ المزعومَ مُنْذُ سَنَواتٍ دُونِ جَدْوَى . . .
وانسابت بَيْنَهُمَا مِنْ جَدِيدٍ أَحَادِيثُ الدُّمُوع وحواراتُ الصَّمْت ليقطعَ ” حُسَام ” مَرَّةً أُخْرَى هَذَا الصَّمْتَ الْجَارِفَ . . .
إذْن . . . عَلَيْنَا أَنْ نَأْتِى إلَى الْبَحْرِ مَعًا نهادنُ الأَحْزَان ونراودُ الذِّكْرَيَات . . .
فتردُّ ” حَسْنَاء ” عَلَى نَفْسِهَا فِى صوتٍ خَافَت . . .
ولمَ لَا . . . رُبَّمَا يلتقى الغُرباءُ مِنْ جَدِيدٍ عَلَى موجةٍ مِن ذكرى أَوْ عَلَى جَنَاحِ مَنْ حُلْم
مَاذَا تَقُولِينَ . . . لَا أسمعُكِ
لَا عليكَ . . . أَنَّهَا همهماتُ الذِّكْرَى تتطايرُ هُنَا وَهُنَاكَ
وتتوالى اللِّقَاءَات بَيْنَهُمَا وتشتعل ُ الذِّكْرَيَات الْمُوجِعَة حِينًا والحالمةُ أَحْيَانًا . . . وينتعشُ عَبِيرُ القلوبِ مِنْ جَدِيدٍ
ويتمتمُ ” حُسَام ” . . . .
مَادَام البحرُ قِبلتُنا والليلُ صُحبتُنا . . . فَرُبَّمَا يشرقُ الأملُ مِنْ جَدِيدٍ
فَردَّت ” حَسْنَاء ” . . .
وَرُبَّمَا لايشرقُ أبداً . . .
وَافْتَرَقَا كَعَادَتِهِمَا عَلَى وَعدِهما الدائمٍ بِاللِّقَاء
الْتَقَيَا فِى اتجاهٍ واحدٍ بَعْد اتِّجَاهَيْن ’ وَاجْتَمَعَا عَلَى حُزنٍ واحدٍ بَعْد حُزنين , فَهَل يمكنُ أَن ينبتَ فِى قلبيهما حلمٌ واحدٌ بَعْد حُلمين ؟ !
عَادَا إلَى مَقَرِّ إقَامَتِهِمَا ’ فَلَم يَنَامَا لَيلتَهُما إلَّا قَلِيلًا ’ وَقَبْل غُرُوب شمسِ الْيَوْم التالى بِقَلِيل آتَيَا مُبكِّرين إلَى الشَّاطِئ كُلٌ مِنْهُمَا يُحَاوِل جَاهِدًا أَنْ يُخْفِى سَعَادَتُه بَيْن زَوَايَا قَلْبِه وَلَكِنْ دُونَ جَدْوَى , فَالْعُيُون تبوحُ دُون قصدٍ وخفقات الْقُلُوب تَفضَحُ صَمْتَ الألسنةِ
أمسكَ ” حُسَام ” كَعَادَتِه بِمقبَضَىِّ كرسيّها فِى سعادةٍ مكتومة واستسلمت ” حَسْنَاء ” رَاضِيَةً بِقَدْرِهَا الْجَدِيد ’ واستكملا سَيْرَهُمَا فِى اتجاههما الْوَاحِد الَّذِى خطّهُ لَهُمَا الْقَدْرِ دُونَ أَنْ يبوحَ بعدُ بِكُلّ أسرارِه
سَارًّا مَعًا يُخَيِّمُ عَلَيْهِمَا عَلَى غَيْرِ الْعَادَةِ صمتٌ جَمِيل وحوار حَالِم ’ كُلٌ مِنْهُمَا يلملمُ الَأُمَةُ ويسبحُ مَع نَسَمَات حُلمِهِ الْجَدِيد .
وفجأةً . . . وَفِى خِضَمّ هَذَا السُّكُون القَدرِىِّ اللَّذِيذ وَبَيْنَمَا هُمَا غارقين فِى أحلامهما الْبَيْضَاء تقفزُ مَنْ خَلْفهمَا دراجةٌ سوداء … دراجة بخاريةُ مُسْرِعَة وتخطفُ الكرسىّ بِمَن عَلَيْه عنوةً مِن يَدَى ” حُسَام ” لتُلقى بِه وبحسنائهِ إلَى الْبَحْرِ , لينتبهَ ” حُسَام ” مِنْ جَدِيدٍ عَلَى مَشْهَد قاسٍ لَيْس بِجَدِيدٍ عَلَيْه لِيَجِدَ ” حَسْنَاء ” مُلقاةً عَلَى صفحةِ الْمَاء مُدرجةً بِدِمَائِهَا فاقدةً لِوَعيِها .
يتجَمَّعُ الْمَارَّة حَوْلَهُمَا ويحملونها مَع حُسَام إِلىَ الْمُسْتَشْفَى الْقَرِيب فتَقْضَى لَيْلَتِهَا فِى الْعِنَايَة الْفَائِقَة وحسام مرابطٌ بجوارها فِى حجْرِة الِانْتِظَار , وَمَع أَذَانِ الفَجْر الْجَدِيدِ ينتفضُ ” حُسَام ” مِن غفوته لِيَجِدَ ” حَسْنَاء ” فِى كامل وَعيِهَا واقفةً عَلَى قَدَمَيْهَا وَسْطَ فَرْحَة عارِمَةٍ مِنْ الْأَطِبَّاءِ والْحُضُورِ , وَفِى لَحْظَة خَاطِفَةٍ تَجْرِى ” حَسْنَاء ” دُونَ أَنْ تَدْرِى وَتُلْقَى بِنَفْسِهَا بَيْن ذِرَاعَىْ ” حُسَام ” لِتنفجرَ فِى عُيُونِهَما أنهارُ الْفَرْحَة من جديد
نَعَم . . . أَنَّه البحرُ . . . كَمَا أشقاهما . . . أسعدهما ’ وَكَمَا أَسْأَل دُمُوعَهُمَا الساخنة أَجْرَى دُمُوعَهُمَا الْبَارِدَة