في عالم متسارع التحولات ، يبقى السؤال الأهم: ما الذي يحمي الدول من الانهيار؟ هل هو الاقتصاد؟ أم التكنولوجيا؟ أم التحالفات السياسية؟ أم أن الأمر أعمق من ذلك بكثير؟ الحقيقة أن العمود الفقري لأي دولة ليس في مظاهر القوة الظاهرة بل في جوهرها غير المرئي: الهوية الوطنية.
الهوية ليست مجرد شعار يُرفع في المناسبات أو خطاب سياسي يُلقى في المؤتمرات ، إنها الرابط الخفي الذي يجمع شعبا بأكمله حول فكرة واحدة: الوطن. وحين تضطرب هذه الفكرة يصبح كل شيء قابلا للانهيار مهما بلغت قوة الدولة عسكريا أو اقتصاديا.
لقد رأينا بأعيننا كيف تحولت بعض الدول التي كانت تُعتبر يوما ما قلاعا حصينة إلى ساحات للفوضى بسبب تفكك هويتها الوطنية. حين بدأ الناس يشعرون بأن انتماءهم لطائفة، أو عرق أو فئة أهم من انتمائهم للوطن بدأت الدول تتآكل من الداخل. ليس بفعل الحروب الخارجية، بل بفعل التآكل البطيء للولاء والانتماء.
لكن السؤال هنا: من المسؤول عن الحفاظ على هذه الهوية؟ البعض يرى أن الدولة هي الحارس الأول، وهذا صحيح، لكن المسؤولية لا تقع على عاتق الحكومات وحدها. المدارس، والمساجد، والكنائس، والإعلام، والمثقفون، وحتى الأفراد العاديون، كلهم شركاء في صناعة وجدان الوطن.
إن أخطر ما يمكن أن يحدث لأي أمة هو أن يصبح أبناؤها غرباء داخلها. حين يشعر المواطن أن بلده ليس بيته بل مجرد مكان يعبر منه إلى فرصة أفضل في مكان آخر تبدأ الهوية في التآكل. وعندما يختلط مفهوم الوطن بالمصلحة الفردية الضيقة يصبح الحديث عن الوطنية مجرد شعارات خاوية.
الهوية الوطنية ليست حجرا صلبا لا يتغير ، لكنها أيضا ليست ورقة في مهب الريح. إنها كيان حي ينمو ويتطور ، لكنه بحاجة دائمة إلى الرعاية. ليس المطلوب أن تكون كل المجتمعات متشابهة، فالتنوع أمر صحي، لكن المطلوب أن يكون هذا التنوع داخل إطار واحد، هو الوطن.
في النهاية الدول لا تنهار فجأة بل تذوب ببطء حين تفقد الرابط الذي يجمع أبناءها. وحين تصل لحظة الحقيقة، قد تجد نفسها بلا سند لأن من كانوا يُفترض بهم أن يدافعوا عنها أصبحوا يرونها مجرد “مكان” وليس “وطنًا”. لهذا فإن معركة الحفاظ على الهوية الوطنية ليست معركة سياسية، بل معركة وجودية هي معركة البقاء نفسها..