يصعب إنكار أو تجاهل الدور الحيوي والفاعل الذي تلعبه التقنيات الرقمية في مختلف مناشط ومجالات الحياة، سواء على الصعيد العلمي أو العملي أو المعيشي، فقد أصبحت جزءًا لا يتجزأ من نسيج المجتمع وبات التعامل معها أمرًا حتميًا، بل تشكل في كثير من الأحيان مرتكزًا رئيسًا تقوم عليها مختلف الأنشطة اليومية، ومن ثم أضحى من الضروري تبني فلسفة لتنمية الوعي الرقمي، ليس كخيار، بل كحتمية تفرضها التطورات المتسارعة في هذا العصر الرقمي، الذي يشهد زخمًا معرفيًا وتقنيًا متزايدًا يومًا تلو الآخر.
ويأتي الاتساق الوثيق بين العلم والتكنولوجيا، وما يفرزه هذا التطور المتلاحق من تأثيرات، يستدعي استراتيجيات فعالة لترسيخ الوعي الرقمي، خصوصًا في البيئات المهنية التي باتت تواجه التطور المتلاحق والمستدام وما نتج عنه من تحديات غير مسبوقة، حيث تصطدم في كثير من الأحيان بممارسات لا تتماشى مع القيم الأخلاقية والاجتماعية الراسخة، بل إن الأمر يتجاوز ذلك ليشمل تهديدات خطيرة قد تؤثر على الأفراد والمجتمعات، سواء من الناحية المعنوية عبر التشكيك في القيم والمبادئ، أو الناحية المادية من خلال انتهاك الخصوصية والاحتيال الإلكتروني؛ لذا فإن تبني نهج متكامل لرفع الوعي الرقمي أصبح ضرورة ملحة لضمان الاستخدام الآمن والمسؤول للتكنولوجيا، بما يمكن للاستفادة منها بشكل إيجابي وبنّاء، ويُسهم في توفير بيئة رقمية أكثر أمانًا، ووعيًا، وإنتاجية.
وقد أصبح التعامل التقليدي مع مجريات الأمور في مجالات وميدان العمل يواجه مقاومة متنامية تأتي من مصادر متعددة وفي مقدمتها ارتقاء أساليب الإنتاجية التي كانت سابقًا تعتمد على الأساليب التقليدية التي تركز على التمعن والتدقيق، لتتحول إلى أساليب أكثر حداثة تتبنى مفهوم إدارة الوقت واستثمار الموارد بشكل أكثر كفاءة، فقد توافرت التقنيات الرقمية التي تُعنى بالجودة والدقة، مستندة إلى معايير قياسية وعالمية تضمن تحقيق أقصى استفادة ممكنة، وهذه التغيرات تؤكد على التحول الجذري في أساليب التفاعل والتعامل في بيئات العمل، حيث صار معتمدًا على الرقمنة ومن ثم جاء التأكيد على أهمية تنمية الوعي الرقمي الضامن لحسن التوظيف والاستخدام الأمثل لهذه الأدوات الحديثة.
ونؤكد إن الوعي الرقمي له دورًا محوريًا في بناء المعرفة الصحيحة والممارسات الفعّالة والتوجهات الإيجابية المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالتقنيات الرقمية، حيث يُمكن الأفراد من التعامل بشكل إيجابي وفعال مع هذه التقنيات، فمن يفقد مقومات هذا النمط من الوعي الرقمي يغرق في تفصيلات قد لا تكون مفيدة ولا قيمة لها، بل قد يتعرض لتهديدات أمنية ومعلوماتية لامتناهية في جملتها وقد تُهدد كفاءته وتُعرّضه لمخاطر لا حصر لها في ظل تزايد حجم وتراكمية المعلومات المتدفقة، حيث أصبح من المستحيل فحص وتمحيص هذه المعلومات وفرز الغث من الثمين باستخدام الطرق التقليدية؛ لذا فإن امتلاك الحد الأدنى من الوعي الرقمي أصبح ضرورة حتمية لمواكبة التقدم الرقمي، وضمان الاستفادة الفعّالة من كل ما تقدمه هذه التقنيات.
ويُعد الهدف الأسمى من توظيف التقنية الرقمية وتطبيقاتها المتطورة هو تحقيق كفاءة إنتاجية تُثمر عن منتج متميز في وقت قياسي، مما يسهم في تحقيق رفاهية شمولية تمتد لتغطي جوانب الحياة العملية والعلمية والخاصة، غير أن هذا الطموح لا يتحقق إلا بتوفير مناخ داعم ينمي الوعي الرقمي، بما يضمن أن تظل القيم الأصيلة جزءًا لا يتجزأ من هذا التحول، مما يحافظ على تماسك الأفراد والمجتمعات، سواء على نطاقها الصغير أو الكبير.
كما أن ترك المجال للتعاملات الرقمية البحتة دون مراعاة للأبعاد الإنسانية وما تحمله من خصائص جوهرية نشأت عليها المجتمعات، يفتح الباب أمام تحديات جسام وقد تؤثر سلبًا على طبيعة الحياة، بل وقد تُخل بفلسفة الإعمار والتنمية التي تعتمد في الأصل على بناء إنسان يمتلك الوعي بأنماطه المختلفة، ويمتلك إدراكًا شاملًا ومهارات متكاملة ومتفردة تمكنه من الاستفادة المثلى من هذه التقنيات دون التخلي عن هويته وقيمه، ومن هنا يصبح التمسك بالوعي الرقمي المتوازن ضرورة مُلحة، فهو لا يقتصر على إجادة استخدام التكنولوجيا، بل يمتد إلى تبنّي مفاهيم أخلاقية وتربوية تُرشد السلوك الرقمي، وتضمن أن يكون التطور أداة بناءٍ لا هدم، ووسيلة لتحقيق التقدم مع الحفاظ على الأصالة.
وتُعد التقنية سلاح العصر، إذ أصبحت عنصرًا محوريًا في مختلف جوانب الحياة، ومن ثم لها مرتكزات لا يمكن التخلي عنها، مما يجعل امتلاك الوعي الرقمي ضرورة لا يمكن التغاضي عنها، هذا الوعي لا يقوم فقط على المعرفة التقنية، بل يمتد ليشمل مهارات التعامل الآمن القائمة على أسس معرفية ومهارية ووجدانية للتقنيات الرقمية وتطبيقاتها المتعددة مع القدرة على اتخاذ قرارات رقمية مسؤولة، مما يرسخ التفاعل الأخلاقي والقيمي بالعالم الرقمي، فالوعي الصحيح بالتقنيات الحديثة يقوم على التكامل، حيث لا يمكن أن تُمارس التعاملات الرقمية الأخلاقية بمعزل عن الوعي والفهم العميق لأصول هذه التعاملات، كما لا يمكن الوصول إلى الإتقان التقني دون امتلاك قاعدة معرفية متينة حول أفضل ممارسات الأداء والاستخدام في الإطار الصحيح؛ ومن ثم فهنالك علاقات ارتباطية يتشكل على أثرها الوعي الرقمي.
وما أجمل من أن نتسلح بالقيم التي يجملها الوعي الرقمي حيث إن امتلاك القيم الجوهرية للوعي الرقمي يوجد حدودًا واضحة وفاصلة تضمن تعاملات سوّية وآمنة، خالية من أي مخاطر كالاختراق، أو الابتزاز، أو الاستغلال، أو التهديد التي قد تصدر من أفراد لا يمتلكون الحد الأدنى من المسؤولية الأخلاقية؛ لذا فإن تبنّي الوعي الرقمي لم يعد خيارًا، بل حاجة ضرورية في عصر يعتمد بشكل أساسي على التكنولوجيا، وتكمن قوته في ارتباطه الوثيق بـمنظومة القيم الإنسانية النبيلة، التي تحكم سلوكياتنا سواء في العالم الواقعي أو الرقمي، مما يزيد من قدرتنا على تحقيق التوازن بين التطور التكنولوجي وحماية الهوية الأخلاقية والمجتمعية.
ونؤكد أنه في ظل التحولات الرقمية المتسارعة، بات الوعي الرقمي ضرورة لا غنى عنه لضمان تفاعل آمن ومسؤول مع العالم الرقمي المنفتح، إن إدراك أبعاد التقنية الحديثة وتطبيقاتها المتطورة لا يقتصر على المعرفة فقط، بل يشمل القدرة على استخدامها بذكاء وأخلاقيات عالية، وحماية النفس والمجتمع من مخاطرها المحتملة، ومن ثم فإن الوعي هو السبيل الأمثل لتحقيق التوازن وبناء مجتمع رقمي واعٍ قادر على مواكبة المستقبل بوعي وثقة.
أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة – جامعة الأزهر