اتصل بي صديق تربوي ، يعد أحد رجال التربية والتعليم المخلصين ، يطلب مساعدة سيدة تبكي بشكل شبه متواصل لأن مستقبل إبنها التعليمي في خطر بعد أن صدر قرار فصله من الجامعة لإستنفاذه مرات الرسوب. وبعد أن وجدنا له مخرجا خاصة أن هناك مادة قابلة للرفع لرسوبة بسبب 3 درجات ، رفض الإبن التعاون لإستكمال تعليمه ، وتشاجر مع أمه ولم يرحم دموعها.
قبلها شكى لي صديق من بلادة أبنائه في التعامل مع الشئون المنزلية . فيأكلون ويتركون الأطباق وبقايا الطعام كما هي طوال اليوم ، بل إن بعضهم يترك الأطباق والأكواب بجوار سريره بالأيام ، وبقايا الفاكهة فوقه. أما حجرة نومهم فسماتها الفوضى تختلط فيها الملابس بالمفروشات بالاحذية بالجوارب .
وتكررت من صديق ثالث مسن ،الشكوى من عدم تحمل أبنائه المسئولية رغم تخرجهم من الجامعة وتجاوز بعضهم الثلاثين عاما من العمر. وأنهم دائما لا يسمعون إلى نصائحه ، ولا يسعون للاستفادة من خلاصة تجربته العملية الطويلة كموظف بالحكومة سابقا وصاحب مشروع استثماري صغير حاليا. وروي لي أنه نصح أحد أبنائه بعدم إستكمال مشروع الخطبة من فتاة لا تزال تدرس وتصغره بسنوات كثيرة ، وتسكن في محافظة اخرى تبعد مئات الكيليومترات ، ولكنه أصر على الإستمرار وتقدم بالشبكة . وبعد 3 سنوات صدقت رؤية الأب وتخرجت الفتاة من الجامعة وطلبت فسخ الخطوبة وتنازلت طواعية عن شبكتة وكل هداياه.
ما ذكرته مجرد أمثلة لحالات متكررة ملايين المرات في مجتمعنا، مما يكشف عن وجود فجوة في التواصل بين الأباء والأبناء، ناجمة عن خلل في التربية الأسرية والمدرسية . وتأكد لي ذلك عندما سمعت حوار بين مجموعة من الصبية كانوا يجلسون على المقهى بالقرب مني . رد أحدهم باستهتار وعجرفة على إتصال تليفوني ، فسأله أخر عن المتصل فأجاب بأنه ” البوب”، فتعالت ضحكاتهم ورد هذا اللآخر قائلا : ” كلهم كدى دقة قديمة “.
وشعرت بحزن شديد عندما علمت أن الصبي كان يرد على والده ، لأن كلمة “البوب” تعني في لغتهم الأب. وأتألم كثيرا عندما أستمع أو أقرأ عن مواقف يتفنن خلالها الصبية والشباب في تعذيب الأباء والأمهات ، متجاهلين قدرهم وجاحدين لجهودهم المضنية في تربيتهم .
ورغم الحزن والألم لا بد أن نعترف أن الوالدين يتحملان المسئولية الكبرى عن الفجوة مع الأبناء بسبب لجوء البعض إلى أساليب التربية العنيفة، والبعد عن القيم الدينية في التربية. وترى الباحثة سناء الدويكات أن الأبناء ينجذبون للجلسات التي يشعرون بأنها ممتعة، ويجب على الوالدين عدم إهمال هذه الناحية بل لابد من التعامل بلطفٍ ولينٍ وبطريقةٍ مريحةٍ مع الأبناء ومراعاة حالتهم النفسية ومشاركتهم إهتماماتهم حتى لو شعروا بأنها ليست بذات قيمةٍ. وأنه يجب على الآباء تعويد الأبناء منذ الصغر على الجلسات الجماعية وتشجيعهم على الحوار وحرية المنافشة وعدم الانشغال عنهم بالأعمال لتلبية متطلباتهم، فأحياناً الرعاية النفسيّة للأبناء أهم من توفير الحاجات المادية. وتنصح الدويكات الأمهات بالذات بعدم الانشغال بالأعمال البيتية على الجلوس مع أبنائها والاستماع إليهم وتعويدهم على التصريح بكل ما قد يتعرّضون له في حياتهم لمساعدتهم على تخطّي أية مشكلةٍ يواجهونها.
وعلى الأبناء أن يغيروا نظرتهم الضيقة الخاطئة تجاه الوالدين ، فهم ليسوا ” دقة قديمة ” بل إن مدرسة الحياة وتجاربها الحلوة والمرة أصقلتهم وجعلت لرؤيتهم قيمة من الضروري الإستفادة منها، وعليهم التعجيل بذلك قبل فوات الاوان لأن الأعمار بيد الله، وأعرف كثيرون يعضون أصابع الندم على معاملتهم السيئة لأباهم قبل وفاتهم . وأدعو هؤلاء الشباب لقراءة رواية (لن أعيش في جلباب ) للكاتب الكبير الراحل إحسان عبد القدوس فقد يغيروا وجهة نظرهم .