رغم الشكوى من قلة نفقات البحث العلمي في مصر وغيرها من الدول العربية مقارنة بما تنفقه دولا عديدة في العالم المتقدم، وحتى في إسرائيل، فإن زيادة النفقات ليست الحل الوحيد لتطوير وتنمية البحث العلمي،
بل من الضروري تنظيم عملية البحث بشكل مستمر وبإرادة واعدة مستهدفة التميز في جميع المجالات، والسعي المخلص والجاد على تأسيس قاعدة علمية وإنشاء مراكز للتميز العلمي تضم التخصصات العلمية المختلفة مما يولد الحماس لدى العلماء لإعطاء إنتاج بحثى أكثر،
وهذا يتطلب إتاحة حرية الإبداع لهم حتى يستطيع العلماء أن يتميزوا ويعطوا ثمرة جديدة في الاختراع والإنتاج الذى يعود بالنفع على المجتمع وأفراده والقطاعات المختلفة في الدولة، فضلا عن ضرورة إجراء إصلاحات علمية خاصة في الجامعات ومراكز ومعاهد البحوث العلمية المختلفة.
ولعله من نافلة القول التأكيد على أن مصر قادرة بعلمائها على التقدم إلى الأمام وتطوير البحث في جميع التخصصات العلمية، فلدينا ذخيرة كبيرة من العلماء المخلصين، والذين صنعوا رغم قصور الإمكانات المتاحة حلولا لمشكلات كثيرة،
وربما فاقت في نتائجها الحلول المستوردة سابقة التجهيز، لكن مازالت هناك ثقوب كثيرة في ثوب البحث العلمي تحتاج للرتق، فليس من باب الأمانة بحال أن نؤكد أن كل منظومة البحث العلمي في مصر خالية من كل مكروه وسوء وأنها مبرئه من كل عيب، في حين أن لدينا تلال من العثرات التي يئن منها جسد البحث العلمي،
الذى بات مقصورا على استحياء على مراكز بعينها بعدما تخلت الجامعات عن دورها البحثي لتكون أساسا بوتقة لتفريخ عشرات الآلاف من الكتبة، وما الجهود المبذولة للإصلاح إلا محاولات فردية غالبا رغم تزايد اهتمام الدولة بالبحث العلمي، والباحث الناجح يعانى الأمرين حتى يجد لنفسه مكانا تحت الشمس ينجو به من صراعات الكبار.
ولعل من باب المصارحة والمكاشفة الإقرار بأنه ليس معقولا ونحن نقف على أعتاب تداعيات العولمة أن يظل تمويل البحث العلمي حكوميا فقط، في حين أن القطاع الخاص هو المسئول في الخارج عن 80% من تمويل البحث العلمي،
كما أننا مازلنا نفتقد روح الفريق في البحث العلمي، ومن بين كثير مما نفتقده، مثلا، غياب لجنة قومية لاحتياجات البحث العلمي تحدد مواصفات للأجهزة والمعدات البحثية التي نحتاجها فى مصر، مما يحول دون تكرار الاستيراد لأجهزة قد يأكلها الصدأ دون أن تمتد إليها يد باحث، كما يغيب عنا حتى اليوم لجنة قومية لأخلاقيات البحث العلمي،
وتفخر الشركة القابضة للأمصال الحيوية واللقاحات بأنها الجهة البحثية الوحيدة في مصر التي لا تجرى فيها أية تجارب دون المرور على لجنة الأخلاقيات البحثية. وكبداية لتصحيح مسار البحث العلمي ولملمة شتاته ينبغي تشكيل مجلس أعلى للبحث العلمي لتجميع الطاقات البشرية والإمكانات المادية في كل المعاهد في ذات التخصص داخل مصر،
ولابد أن يتم تشكيل هيئة في مصر لتسويق التكنولوجيا سواء في النقل من الداخل أو الاستيراد من الخارج، ولابد أن تكون هناك خطوط إرشادية للتعامل مع الأجهزة
وان تكون هناك طرق قياسية متعارف عليها للعمل في المختبرات، لكى نسهل على الباحث الوصول إلى نتائج محددة يمكن مقارنتها بأبحاث مثيلة. ومن أهم أسباب تأخر البحث العلمي في مصر ارتباطه فى أذهان الباحثين بالدرجات العلمية وليس الابتكارات العلمية، مما حولهم إلى باحثين هواة وليسوا محترفين، هواة بمعنى مفهوم البحث واقتصادياته،
لأن كل ما يصبو إليه الباحث هو أن يحصل على ورقة لامعنى لها يترقى بها في سلمه الوظيفي، ولكن إذا غرسنا في الباحث أن البحث يقصد به منفعة الإنسانية من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه سيحصل على عائد مادى كبير نتيجة تميزه وابتكاره، بالتأكيد سيتغير الحال تماما، وإذا أصرت كل الجامعات ومراكز البحوث القواعد المنظمة التي تلزم الباحث بأن يسجل براءة اختراعه، وأن نحدد لهذا الباحث عائده المادي من تلك البراءة،
إن تم ذلك بالفعل سيكون لدى كل الباحثين دافع قوى وجبار يحرك منظومة البحث العلمي في مصر. والبحث العلمي لدينا يمكن ان يتحول إلى احتراف عندما يعنى تعاقد وعائد وحقوق والتزامات، كما أن أسلوب الترقي في مصر لامعنى له، لأن ما يحكم العالم حاليا هو المعنى الاقتصادي،
لأن البحث العلمي في خدمة الاقتصاد، وإذا فقد معناه فلن يكون كلاهما ناجحا. فمتى أدركنا كل ذلك نكون قد وضعنا أيدينا على أول طريق إصلاح البحث العلمي والانطلاق به بما يعود بالنفع على المجتمع، بدلا من انتظار الحلول الجاهزة من علماء الخارج، الذين لا يمتلكون مواهب متفردة عن علمائنا سوى في روح الفريق وتوافر الإمكانيات وكفاءة التنظيم. ‘
استطاعت الدول المتقدمة أن توجد آليات وتعتمد على وسائل تمكنها من توفير الميزانيات اللازمة للإنفاق على البحث العلمي وتنويع مصادره، إضافة إلى الإنفاق عليه بسخاء من ميزانياتها، بينما في البلدان العربية تواجه المؤسسات البحثية والجامعية الكثير والكثير من المعوقات والتحديات، ومن أهمها انخفاض مستويات التمويل، وتدني إسهام القطاع الخاص في شؤون التعليم العالي والبحث العلمي، إذ إن نسبة تمويل البحث العلمي تكاد لا تصل إلى 1٪ في الموازنات العامة!
والناظر إلى واقع التمويل العربي للبحث العلمي، يجد أنه يختلف كثيرًا عن المعدل العالمي للإنفاق على البحث العلمي، ويتخلف كثيرًا عامًا بعد عام، حتى لو تقدم معدل الإنفاق العربي على البحث العلمي في الفترة من عام 1970م وحتى عام 2005م، إذ إن هذا التقدم حدث بشكل نسبي وضئيل جدًا مقارنة بالوضع العالمي المتسارع.
فهذا الارتفاع الذي حدث خلال هذه الفترة الطويلة هو ببساطة شديدة عبارة عن ارتفاع نسبة الإنفاق على البحث العلمي قياسًا إلى الناتج المحلي من 0.31٪ عام 1970م إلى 0.67٪ عام 1990م. ومن ثم فلا تأثير لهذا الارتفاع الضئيل على الفجوة الكبيرة بين الأقطار العربية والمجموعات الدولية في هذا المجال.
وتختلف الأقطار العربية فيما بينها من حيث حجم الإنفاق على البحث العلمي. والملاحظ أن نسبة الإنفاق على البحث العلمي بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي لم تتعد 0.5٪ في الأقطار العربية كافة لعام 1992م، وهي نسبة ضئيلة عند مقارنتها بمثيلاتها في السويد وفرنسا حيث بلغت 2.9٪، و2.7٪ على التوالي.
وفي عام 1999م كانت نسبة الإنفاق على البحث العلمي في مصر 0.4٪، وفي الأردن 0.33٪، وفي المغرب 0.2٪، وفي كل من سوريا ولبنان وتونس والسعودية 0.1٪ من إجمالي الناتج القومي. وتؤكد ذلك إحصائيات اليونسكو لعام 1999م. أما إحصائيات سنة 2004م لنفس المنظمة العالمية، فتقول إن الدول العربية مجتمعة خصصت للبحث العلمي ما يعادل 1.7 مليار دولار فقط، أي ما نسبته 0.3٪ من الناتج القومي الإجمالي.
يعود قصور الجامعات في البحث العلمي إلى عدم تخصيص ميزانية مستقلة ومشجعة للبحوث العلمية، إضافة إلى أن الحصول على منحة بحثية يستغرق إجراءات طويلة ومعقدة مع قلة في الجهات المانحة. كما أن معظم الجامعات في الدول النامية تركز على عملية التدريس أكثر من تركيزها على البحوث العلمية لأسباب عدة.
كما أن الدول المتقدمة ترصد الميزانيات الضخمة للبحوث العلمية لمعرفتها بالعوائد الضخمة التي تغطي أضعاف ما أنفقته، في حين يتراجع الإنفاق على البحوث العلمية في الدول العربية بسبب النقص في التمويل الذي تنفق نسبة كبيرة منه على الأجور والمرتبات.
هذا، ولقد أنفق العالم في عام 1990م مبلغ 450 مليار دولار على البحث العلمي والتطوير، وكان إسهام الدول النامية أقل من 4٪.
ومن جانب آخر فإن مخصصات البحث العلمي في الدول المتقدمة تزداد عامًا بعد آخر، إذ تتضاعف كل ثلاث سنوات تقريبًا، وتتجاوز نسبة مخصصات البحث العلمي في بعض الدول المتقدمة 4٪ من إجمالي الناتج القومي
دكتور القانون العام ومحكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان