ثورة المصريين لم تنقذ مصر فقط، لكنها أنقذت المنطقة العربية من مخطط شيطانى لتقسيمها إلى دويلات لا تساوي الواحدة منها جناح بعوضة، وبنظرة عابرة على الخريطة الآن من العراق وسوريا شرقاً إلى ليبيا غرباً والسودان جنوباً..
يدرك المرء الفارق بين دول وقعت في الفخ، ودولة تعرف قدر نفسها بحكم الجغرافيا وعمق التاريخ. خرجت الثورة في 30 يونيو، ونجحت في 3 يوليو، وعلا في سماء الوطن هتاف «الجيش والشعب إيد واحدة».
ولقد كان الأمل معقودا على وفاق وطني يضع خارطة مستقبل، ويوفر أسباب الثقة والطمأنينة والاستقرار لهذا الشعب بما يحقق طموحه ورجاءه، إلا أن خطاب السيد الرئيس ليلة أمس وقبل انتهاء مهلة الـ48 ساعة جاء بما لا يلبى ويتوافق مع مطالب جموع الشعب.. الأمر الذى استوجب من القوات المسلحة استنادا على مسؤوليتها الوطنية والتاريخية التشاور مع بعض رموز القوى الوطنية والسياسية والشباب ودون استبعاد أو إقصاء لأحد..
حيث اتفق المجتمعون على خارطة مستقبل تتضمن خطوات أولية تحقق بناء مجتمع مصري قوى ومتماسك لا يقصى أحدا من أبنائه وتياراته وينهى حالة الصراع والانقسام وتشتمل هذه الخارطة على الآتي:
– تعطيل العمل بالدستور بشكل مؤقت.
– يؤدى رئيس المحكمة الدستورية العليا اليمين أمام الجمعية العامة للمحكمة.
– إجراء انتخابات رئاسية مبكرة على أن يتولى رئيس المحكمة الدستورية العليا إدارة شؤون البلاد خلال المرحلة الانتقالية لحين انتخاب رئيس جديد.
– لرئيس المحكمة الدستورية العليا سلطة إصدار إعلانات دستورية خلال المرحلة الانتقالية.
– تشكيل حكومة كفاءات وطنية قوية وقادرة تتمتع بجميع الصلاحيات لإدارة المرحلة الحالية.
– تشكيل لجنة تضم كل الأطياف والخبرات لمراجعة التعديلات الدستورية المقترحة على الدستور الذى تم تعطيله مؤقتا.
– مناشدة المحكمة الدستورية العليا لسرعة إقرار مشروع قانون انتخابات مجلس النواب والبدء في إجراءات الإعداد للانتخابات البرلمانية.
– وضع ميثاق شرف إعلامي يكفل حرية الإعلام ويحقق القواعد المهنية والمصداقية والحيدة وإعلاء المصلحة العليا للوطن.
– اتخاذ الإجراءات التنفيذية لتمكين ودمج الشباب في مؤسسات الدولة ليكون شريكا في القرار كمساعدين للوزراء والمحافظين ومواقع السلطة التنفيذية المختلفة.
– تشكيل لجنة عليا للمصالحة الوطنية من شخصيات تتمتع بمصداقية وقبول لدى جميع النخب الوطنية وتمثل مختلف التوجهات.
تهيب القوات المسلحة بالشعب المصري العظيم بكل أطيافه الالتزام بالتظاهر السلمى وتجنب العنف الذى يؤدى إلى مزيد من الاحتقان وإراقة دم الأبرياء.. وتحذر من أنها ستتصدى بالتعاون مع رجال وزارة الداخلية بكل قوة وحسم ضد أي خروج عن السلمية طبقا للقانون وذلك من منطلق مسؤوليتها الوطنية والتاريخية.
خلت مصر في مرحلة انتقالية وتأسيسية لبناء نظام ديمقراطي منذ 3 يوليو 2013 كاستجابة لمطالب الموجة الثورية التي شهدتها مصر في 30 يونيو 2013 حيث توافقت القوى الوطنية المصرية على حزمة إجراءات اعتبرت كخريطة طريق للمرحلة الانتقالية ،
والتي تمثلت في عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي وتعديل الدستور المصري الذي لم يحظ بتوافق مقبول وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة وانتخابات برلمانية حرة ونزيهة .
وبالفعل أقر الشعب المصري دستوره الجديد الذي يعد نقلة كبيرة في تعزيز الحقوق والحريات وذلك بعد استفتاء شعبي أُجرى في يناير 2014 وانتهي بموافقة 98.1% من الناخبين على الدستور الجديد، وبذلك تكون مصر قد أسست لشرعية دستورية وسياسية جديدة .
ثم حلت الانتخابات الرئاسية ، كثاني خطوة في خارطة الطريق ، والتي تعد ثالث انتخابات رئاسية تعددية في تاريخ مصر وثاني انتخابات رئاسية بعد ثورة25 يناير ، وقد شهدت الانتخابات التي أجريت في مايو 2014 معدلات مشاركة مرتفعة قياسا بالتاريخ الانتخابي المصري ، وتمت في أجواء حرة ونزيهة ، وانتهت بفوز الرئيس الحالي السيد عبد الفتاح السيسي بأغلبية كاسحة .
ثم جاء الاستحقاق الثالث والأخير من خارطة الطريق المتمثل في الانتخابات البرلمانية والتي أسفرت عن تشكيل مجلس النواب الجديد صاحب السلطة التشريعية والدور الرقابي وصوت الشعب ، ليعيد استكمال بناء مؤسسات الدولة المدنية الحديثة والعبور بها إلى بر الأمان ،
والذى ترتكز أهميته على اعتبارين أحدهما الاطلاع على سن التشريعات والقوانين المكملة للدستور، والثاني أنه يُعد انعكاسًا أمام العالم لإرادة المصريين القوية ، ويمثل ضمير الأمة ونبض أبنائها وحصن آمالها وتطلعاتها .
في 30 يونيو أطلق الشعب ثورة جديدة لتصحيح مسار 25 يناير، ودوّت في جميع ميادين القاهرة والمحافظات هتافات موحدة لملايين المتظاهرين تطالب بإسقاط نظام محمد مرسي وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة؛ ففي ميدان التحرير “أيقونة الثورة المصرية”، كان المشهد منذ ساعات الصباح الأولى ليوم 30 يونيو حاشدًا ومهيبًا، إذ اكتظت جنباته بالمتظاهرين الذين لم تمنعهم حرارة الشمس الحارقة أو الزحام الخانق عن البقاء ثابتين في أماكنهم لترديد هتافات : “الشعب يريد إسقاط النظام” و”ارحل” و”يسقط يسقط حكم المرشد”. الميادين الكبرى بالقاهرة والجيزة كانت بمثابة رحم لثورة العاصمة، حيث خرجت منها مسيرات تقدمها ناشطون وسياسيون بارزون، لكنها سرعان ما ذابت بين أبناء الشعب، وكذلك رجال الشرطة الذين انضموا لهم واحتضنوا هتافاتهم، لتشهد ثورة 30 يونيو شعارًا جديدًا وهو “الشعب والشرطة إيد واحدة”.
ومع نزول ملايين وتتحول المسيرات إلى كتلة بشرية هائلة مثل كرة الثلج التي يزداد حجمها كلما تدحرجت من فوق الجبل، ثم صبت بشكل حضاري – دون عنف أو ابتذال- مخزونها الثوري في ميدان التحرير ثم قصر الاتحادية. وفي المحافظات، لم يكن المشهد بعيدًا عن حالة الغليان الثوري، إذ لم تقتصر على المظاهرات الحاشدة المنددة بالنظام والمطالبة بإسقاطه، بل تخطى الأمر إلى حد فرض العصيان المدني،
حيث تمكن المتظاهرون في الدقهلية وكفر الشيخ والمنوفية والشرقية والقليوبية من حصار مباني المحافظات والمباني الحكومية وإغلاقها بالجنازير وطرد محافظي الإخوان حتى يسقط النظام. واللافت للنظر أكثر في المشهد الثوري خارج العاصمة هو؛ رفض كثير من محافظات الصعيد – التي لم تشارك في ثورة يناير- تهديدات حلفاء مرسي وخرجوا إلى الشوارع والميادين للمطالبة بإسقاط النظام.
وفي الأول من يوليو، وجهت القيادة العامة للقوات المسلحة بياناً ثانياً أمهلت فيه القوي السياسية مدة 48 ساعة للوصول إلي حل للأزمة، وأنه إذ لم تتحقق المطالب الشعبية خلال هذه الفترة، فإن الجيش المصري سوف يقوم بتنفيذ “خارطة مستقبل” يشرف على تنفيذها ويشارك فيها جميع الأطياف والاتجاهات بما فيها الشباب دون اقصاء أو استبعاد لأحد.
وبعد انتهاء المهلة الثانية التي منحتها القوات المسلحة للرئيس محمد مرسي، انحازت القوات المسلحة إلى الشعب، وأعلن الفريق أول عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة مساء الثالث من يوليو خارطة المستقبل التي تم الاتفاق عليها مع عدد من الرموز الدينية والوطنية والشبابية، والتي تضمنت تعطيل العمل بالدستور وتولي رئيس المحكمة الدستورية العليا إدارة المرحلة الانتقالية، وتشكيل حكومة كفاءات وطنية وكذلك لجنة للتعديلات الدستورية وأخرى للمصالحة الوطنية.
وكنتيجة لرفض الرئيس مرسي الاستجابة لمطلب الدعوة بادرت القوات المسلحة في مواجهة الانهيار السياسي للنظام إلى إصدار قرار بعزل رئيس الجمهورية، وإعلان خريطة طريق تهدف إلى إجراء انتخابات مبكرة اتفقت القوي السياسية على ضرورة وضع نهاية لحكمه، وأعلنت عن ذلك الاتفاق في اجتماعها بتاريخ 3 يوليو، وشملت تلك القوي : الجيش، والأحزاب المدنية الرئيسية، مثل الوفد، والتجمع الناصري، والدستور، والمصريين الأحرار، والكرامة، والتيار الشعبي، وحزب النور السلفي، وحركة تمرد، إضافة إلي شيخ الأزهر، وبابا الكنيسة الكاثوليكية.
وفي هذا الاجتماع المشار إليه، تم الإعلان عن مرحلة انتقالية جديدة، وخارطة مستقبل تضمنت تولي رئيس المحكمة الدستورية العليا منصب الرئيس، وتجميد العمل بدستور 2012، وإصدار إعلان دستور مؤقت لحين تعديل الدستور،
وبالفعل أخذت خارطة المستقبل طريقها للتنفيذ، فتولي المستشار عدلي منصور منصب رئيس الجمهورية، وتم الانتهاء من إعداد الدستور في 3 ديسمبر وموافقة المواطنين عليه في استفتاء يومي 14 و 15 يناير 2014 وانتخب رئيس جديد للبلاد في يونيو، وبدأت إجراءات الدعوة لعقد انتخابات مجلي النواب في 18 يوليو.
وعقب انتهاء بيان القوات المسلحة، الذي تلاه الفريق أول عبد الفتاح السيسي – كلمة السر في نجاح ثورة المصريين على الإخوان – عمّت فرحة عارمة في ميادين مصر كلها وهتف المتظاهرون للسيسي والقوات المسلحة التي انحازت لثورة الشعب المصري، والتي طالما أكدت – من خلال مواقفها – أنها جيش الشعب وقوته الضاربة ضد أعدائه في الداخل والخارج.
لم تكن الولايات المتحدة تتوقع مثل هذا على الاطلاق، فاعتبرت أن هذا انقلابا، فقطعت المعونة الأمريكية، وهنا خرج الفريق ” عبد الفتاح السيسي” وزير الدفاع، في لقاء له مع صحيفة واشنطن بوست في أغسطس 2013، مبينا للعالم أجمع بأن :” الجيش المصري لم يقم بانقلاب … لقد قاد الإخوان البلاد بطريقة تخدم الأيديولوجية التي يمثلونها، وهذا ما لم يجعل محمد مرسي رئيسا لكل المصريين… كان الجيش حريصاً جداً على نجاح مرسي، ولو كنا نعارض أو لا نريد السماح للإخوان أن يحكموا مصر لكنا تلاعبنا في عملية الانتخابات … لقد اختار مرسي أن يصطدم مع جميع مؤسسات الدولة: القضاء، الأزهر، الكنيسة، الإعلام، القوى السياسية، وحتى مع الرأي العام . وعندما يصطدم رئيس مع كل مؤسسات الدولة؛ فإن فرصة نجاحه تكون ضئيلة .
ومن ناحية أخرى، كان (مرسي) يحاول استدعاء وحشد أنصار ذو خلفيات دينية له من الداخل والخارج … إن الفكرة التي جمعت تنظيمات الإخوان المسلمين في تنظيم دولي لا تقوم على القومية أو الوطنية وإنما على أيديولوجية ترتبط تماما بمفهوم التنظيم (لا، الدولة…) خلال المراحل المختلفة أطلعنا مرسي على التطورات على أرض الواقع، وقدمنا له المشورة وتوصيات مقترحة لكيفية التعامل معها وكان ممكنا عمل الكثير .
فعلى سبيل المثال كان من الممكن حل الأزمة من خلال حكومة ائتلافية دون المساس بمنصب الرئيس. لكن مرسي كان يستمع فقط دون أن يعمل بأي منها .وأعتقد أن اتخاذ القرارات والقيادة كانت في أيدي تنظيم الإخوان، وهذا أحد أسباب فشله الرئيسية …قبل 30 يوليو” أعطينا مهلة سبعة أيام لكل القوى السياسية في مصر للعمل على إنهاء الأزمة، تم تجديدها لمدة 48 ساعة إضافية كفرصة أخيرة (لمرسي) للتفاوض مع القوى السياسية والتوصل الى حل وسط. وأعلنت بشكل واضح أنه إن لم يتغير شيء مع نهاية المدة؛ فستعلن خارطة طريق من قبل العسكر والقوى السياسية …وحتى في يوم إعلان البيان (بيان إقالة مرسي من منصبه في 3 يوليو، 2012) دعوت لاجتماع ضم بابا الأقباط، وشيخ الأزهر، ومحمد البرادعي والممثل السياسي لحزب النور، وممثل عن المرأة المصرية، وممثلين عن القضاء المصري، وعن الشباب، وتمرد، ودُعي حزب الحرية والعدالة إلى الاجتماع، لكن لم يأت منهم أحد. واتفق الحاضرون على خارطة طريق بتعيين رئيس المحكمة الدستورية العليا رئيسا مؤقتا للجمهورية وتشكيل حكومة تكنوقراط، وتشكيل لجنة من الخبراء والقانونيين لعمل التعديلات الدستورية … وطرح الدستور للاستفتاء العام .وبمجرد الموافقة عليه سنجري الانتخابات البرلمانية والرئاسية في غضون تسعة أشهر …
وفي نفس اليوم الذي أعلن فيه البيان وجُهت رسالة الى الرئيس السابق طالبته بالمبادرة لحل الأزمة بأن يطرح نفسه لاستفتاء شعبي ومعرفة ما إذا كان الشعب ما زال يريده رئيسا، لكنه قال :لا ليس بعد …ولو لم نتدخل لكانت هناك حرب أهلية… وكنت كذلك قبل رحيل مرسي بأربعة أشهر قد أوضحت له أن نهجه وجماعته في الحكم يخلق صراعاً بين مؤيديه والمعارضة… وأخبرته أن الجيش لن يكون قادرا على فعل شيء في حال اقتتلت جماعته مع الشعب المصري.
وأخيراً وليس آخر أقول بأن عظمة المصريين، ومن خلفهم القوات المسلحة، بقيادة الفريق أول عبد الفتاح السيسي، تكمن في تعطيل مخطط الشرق الأوسط الجديد للصهيو أمريكية أمام صخرة الإدارة المصرية، الأمر الذي سيؤدي حتما إلى إجهاض هذا المخطط الشيطاني في المنطقة بأسرها فيما بعد،
ذلك المخطط الذي تم وضع ملامحه الأولية منذ سبعينيات القرن العشرين، وبدأ التحضير له منذ الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003م، لبدء التنفيذ مع وصول الإخوان المسلمون لمقاعد مجلس الشعب في العام 2005، لتوصيل التيار الراديكالي الإسلامي إلى سدة الحكم في المنطقة، بعد أن أعادوا توصيفه إلى تيار إسلامي معتدل كنقطة انطلاقة لتقسيم المنطقة بالكامل.. وللحديث بقية!
دكتور القانون العام ومحكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان