كانت إيران، وحزب الله، وسورية قد أرست منذ أمد بعيد، “محور ممانعة” يجمعه العداء لإسرائيل ويعارض نظام الأمن الإقليمي الذي تتزعّمه الولايات المتحدة. لم يكن لإيران إلا ارتباط طفيف بالمرحلة الأولى من الفوران في سورية واليمن، غير أنها سعت بالتأكيد إلى الإفادة من التصدّع المؤسّسي والانشقاقات الطائفية اللاحقة. وأثارت هذه التطورات فزع إسرائيل، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة التي كانت مخاوفها من تلك المخاطر تتقارب وتتقاطع بصورة مطّردة خلال السنوات الأخيرة.
غير أن سلوكيات هاتين القوتين العالميتين – الولايات المتحدة وروسيا – هي التي عززت التلاحم بين هذه التحالفات الوليدة وحوّلتها إلى ما يشبه الكتل الإقليمية. ذلك أن تدخّل روسيا العسكري في أيلول/سبتمبر 2015 لنصرة حكومة الأسد أدخلها في شراكة عسكرية مع إيران، وسورية، وحزب الله.
وحاولت إدارة أوباما أن تركب موجة الانقسامات الإقليمية، مع مواصلة التعاون مع إسرائيل والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، والتفاوض في الوقت نفسه حول خطة العمل الشاملة في ما يتعلق ببرنامج إيران النووي. غير أن الكتلة المعادية لإيران ازدادت قوة بعد عجز الإدارة عن ترجمة هذه الخطة إلى أسلوب عمل جديد مع إيران حول أنشطتها الإقليمية، التي تزامنت مع وصول إدارة ترامب الصقورية إلى السلطة وانسحابها من خطة العمل المشتركة في أيار/مايو 2018.
تنطوي كل من هذه الكتل على تناقضات داخلية. فسورية هي نقطة الارتكاز للتعاون الروسي الإيراني، إلا أن روسيا تحاول العمل من خلال المؤسسة العسكرية السورية غير الطائفية، اسمياً، بينما تستخدم إيران الميليشيات الطائفية التي تقوّض تماسك الدولة. كما أن رد فعل روسيا الخافت على الغارات الجوية الإسرائيلية واسعة النطاق في أيار/مايو 2018 على المرافق الإيرانية داخل سورية- بالمقارنة مع احتجاجاتها المجلجلة على الضربات الجوية المحدودة، بما لا يقاس، التي قامت بها الولايات المتحدة على ما يشتبه بأنه أسلحة كيميائية قبل ذلك بشهر واحد، كان يوحي بأن روسيا لم تنزعج لخفض قدرة إيران العسكرية في سورية.
في تلك الأثناء، تبدو الكتلة التي تتزعمها الولايات المتحدة كما لو كانت حشداً بدائياً للنفور من إيران أكثر منها تحالفاً عسكرياً من النوع المتعارف عليه. وفي غياب الحديث عن دولة فلسطينية، ستظل إسرائيل تفتقر إلى علاقات دبلوماسية أساسية مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
هناك تلاقح متبادل كذلك بين الكتل. فعلى الرغم من شراكتها مع إيران في سورية، حافظت روسيا على علاقات عملية مع أغلب الدول في المنطقة، ومنها شركاء الولايات المتحدة في الميدان الأمني. لازالت تركيا عضواً في كلٍّ من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والائتلاف الذي تتزعّمه الولايات المتحدة لمكافحة تنظيم الدولة الإسلامية المُعلنة ذاتياً. غير أن العلاقات بين واشنطن وأنقره بدأت بالتأزم في الآونة الأخيرة، ويعود ذلك في جانب منه، إلى دعم الولايات المتحدة المستمر للمتمردين السوريين الكرد. كما أن تركيا اشتركت مع روسيا وإيران في عملية أستانة، التي ساندت سلسلة من اتفاقيات وقف إطلاق النار بين القوات السورية الموالية للأسد وجماعات المتمردين، مع السماح لروسيا بتوسيع نفوذها السياسي داخل سورية. وفي تلك الأثناء، واصلت المملكة العربية السعودية واتحاد الإمارات العربية مناهضتها لتركيا التي لم تؤدِّ سوى إلى نتائج عكسية لتركيا وقطر، في ميداني الإيديولوجيا وصراع القوى، ما دفع هذين الشريكين سابقاً إلى التودد لإيران.
مقابل هذه الخلفية المعقّدة، تلعب هذه المنازلات الثنائية الأربع المتنافسة: المملكة العربية السعودية – إيران، إسرائيل- إيران، الولايات المتحدة- إيران والولايات المتحدة– روسيا، دوراً حاسماً بصورة خاصة على ما يبدو في تشكيل التوازن الأمني الإقليمي الجديد. ويُشار إلى أن احتمالات حل أي من هذه الصراعات ضئيلة، حيث أن بعضها يرتدي طابعاً شبه وجودي، بينما يحصد القادة في بعضها الآخر منافع سياسية. ثم، لا تبدو المصالحة بين أكثر هذه المحاور مُمكنة في المستقبل المنظور، بيد أن ثمة حاجة ملحة لاستكشاف ما إذا كان من الممكن جعل هذه المنافسة الحتمية أقل فتكاً، إذ إن ذلك قد يؤدي إلى إنقاذ بعض الدول، مثل سورية واليمن، من الدمار الشامل ويتيح الفرصة لحكومات الشرق الأوسط لتوفير الرعاية الاجتماعية والاقتصادية لمواطنيها.
يحذّر الباحثون في سياسات الأمن الدولية من المآزق الأمنية، التي تفضي فيها الخطوات التي تتخذها إحدى الدول إلى إجراءات معاكسة من خصم يشعر عندئذ بأنه غير آمن، ما يؤدي إلى سلسلة من تفاعلات تقود إلى نشوب صراع.3 ويعكس هذا المسلسل الدائري المتحرّك صورة دقيقة عن أوضاع الشرق الأوسط في الوقت الراهن. فمن الواضح تماماً للمراقبين في إسرائيل والمملكة العربية السعودية أن إيران تلعب دوراً مدمّراً لأقصى الحدود في مناطق مثل لبنان، وسورية، واليمن. ويشير المسؤولون عن الأمن في إسرائيل إلى أهمية إقامة رادع عسكري يتمتع بالمصداقية بالنظر إلى توافر عقود من العداء الإيراني.4 غير أن لهذه السلوكيات ما يبررها من المنظور الإيراني بوصفها ردّاً دفاعياً على تهديدات إسرائيل بشن غارات عسكرية، وعلى المرافق العسكرية التي أقامتها الولايات المتحدة على مرمى حجر من الحدود الإيرانية. أعلنت إدارة ترامب مؤخراً عن جهود ترمي إلى إقامة تحالف استراتيجي في الشرق الأوسط يضم بلدان مجلس التعاون الخليجي، ومصر، والأردن.
ومع أن احتمالات النجاح تبدو ضئيلة، نظراً إلى الانشقاقات العربية وما آلت إليه مبادرات سابقة، سيعود هذا التحالف بالفائدة بالتأكيد على أعضائه في مجال تنسيق الجهود لمكافحة الإرهاب ومواجهة النفوذ الإيراني. بالمقارنة مع جميع المناطق الجغرافية الأخرى تقريباً في العالم، يعاني الشرق الأوسط من الافتقار إلى آليات حل النزاعات الإقليمية والبروتوكولات الدبلوماسية التي قد تضيّق من نطاق النزاع الإقليمي. لقد عُرِّفت الحرب الباردة بأنها تمثّل العداء بين حلف الناتو وحلف وارسو، غير أن الطرفين شعرا على نحو مطّرد بالحاجة إلى وضع آليات مؤسسية شاملة لتخفيف التوتر. واجتمع كل الرؤساء الأميركيين، من دوايت دي آيزنهاور إلى جورج دبيلو بوش مع نظرائهم السوفييت. وفي اللحظات الأكثر توترا، اكتسبت قنوات الاتصال الأميركية- السوفيتية على أعلى المستويات أهمية خاصة. ومع مرور الوقت، أُنشئ عدد من المؤسسات لتعزيز الإجراءات الرامية إلى بناء الثقة والارتقاء بمستوى الشفافية، ومنها “منظمة الأمن والتعاون في أوروبا”، والاتفاقيات المتتالية لضبط التسلح، وبعدها “اتفاقية الأجواء المفتوحة”، التي تسمح برحلات طائرات المراقبة غير المسلحة بالتحليق في أجواء البلدان الموقّعة على الاتفاقية، لتعزيز المكاشفة في ما يتعلق بالسلاح العسكري والنووي.
إن غياب ما يشبه هذه الآليات أو المنظمات، ولاسيما في فترة انتشار النزاعات العسكرية، يؤدي إلى تفاقم المآزق الأمنية من اتجاهات متعددة، وفي هذه الحالة فإن الخطوات التي تعتبرها إحدى الدول ضرورية للمحافظة على أمنها– مثل التدخّل العسكري، وتشكيل تحالفات وما إلى ذلك- ستكون مصدراً للتهديد في نظر دولة أخرى منافسة لها. وخلال الجهود الرامية إلى إحلال السلام بين إسرائيل والفلسطينيين في تسعينيات القرن الفائت، جرت محاولات لإقامة آليات للتواصل والتعاون الإقليمي. فقد شكّل المشاركون في مؤتمر مدريد العام 1991 خمس لجان عمل متعددة الأطراف لمواجهة التحديات الإقليمية، يضم كلٌّ منها إسرائيل ومجموعة من الدول العربية.
وكانت المجموعة الرئيسة هي التي تعالج “ضبط التسلح والأمن الإقليمي”، وكان ذلك يمثّل الخطوة الأولى لبلورة إطار نظامي متعدد الأطراف لمعالجة قضايا الأمن الإقليمي. وعقدت بحضور جميع الأعضاء ست جولات استضافتها الولايات المتحدة وإسبانيا بصورة مشتركة، وحددت المعالم الأساسية لسلسلة من الترتيبات قبل توقف لجنة العمل تدريجياً بحلول العام 1995 في ظل تصاعد العداوات الإقليمية وتحديات التنفيذ. ومع أن جميع لجان العمل تلك قد قضت منذ عهد بعيد، فإن واحدة وحسب من نتائجها الملموسة لازالت قائمة؛ وهي “مركز بحوث تحلية المياه في الشرق الأوسط في سلطنة عُمان”، الذي أُنشئ العام 1995. ويقوم المركز بدراسة قضايا المياه العابرة للحدود ومشروعات التنمية، ويضم في عضويته إسرائيل والأردن وعُمان وفلسطين وقطر، بالإضافة إلى دول أوروبية عدة.
توصيات السياسة العامة
من المرجّح أن عدم الاستقرار سيستمر في الشرق الأوسط طالما استمر تأجج الصراعات الداخلية. ويبدو أن بناء الثقة بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية وإيران مستحيل في الوقت الحاضر. غير أن الهدف الأقرب إلى التحقيق هو دعم الفاعلين الإقليميين والدوليين لاتخاذ ترتيبات لإدارة هذه الصراعات على نحو أفضل، لتقليص احتمالات تصعيد الصراع على المستوى الإقليمي. وفي هذه الحالة، لن يحقّق أي طرف أية فائدة. بل إن تأسيس آليات لتبادل المعلومات يمكن أن يخفّف من احتمالات سوء التقدير أو الحساب وقد يوفّر طرقاً جانبية لتخفيض حدة الأزمات عند وقوعها. وقد تتضمن التدابير التي يمكن النظر فيها ما يلي:
الترتيبات الثنائية: إن المدركات الشعبية تعرض الاتصالات الدبلوماسية أحياناً بصورة كاريكاتورية باعتبارها دليلاً على الضعف. لكن، إذا كانت الاتصالات الدبلوماسية الروتينية مع الشركاء على جانب من الأهمية، فإن الاتصالات الدبلوماسية المتبادلة مع الخصوم قد تكون أكثر أهمية. ويولّد التحيّز ضد التواصل بين الخصوم في الشرق الأوسط نتائج عكسية، وقد يكون السير في الاتجاه المعاكس واحداً من المكونات المهمة في خلق بيئة إقليمية أقل اضطراباً. وفي وسع واضعي السياسات أن ينظروا في إمكانيات عدة– مثل إعادة العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وإيران؛ والسماح للدبلوماسيين العرب من الدول التي لم تعترف بإسرائيل بالاجتماع بهدوء مع نظرائهم الإسرائيليين على أرض محايدة؛ وإعادة فتح القنوات الدبلوماسية التي افتتحت خلال إدارة أوباما بين الولايات المتحدة وإيران. ومع أنه من غير المرجّح أن تسفر هذه الخطوات عن أي اختراقات سريعة، إلا أنها قد تضيّق احتمالات المزيد من التصعيد عند نشوب الأزمات.
التدابير متعدّدة الأطراف: ينبغي على الولايات المتحدة والفاعلين الإقليميين والدوليين الآخرين، حتى مع استمرار ترامب في جهوده الرامية إلى إقامة تحالف استراتيجي في الشرق الأوسط، أن تبذل جهوداً موازية لتوسيع الآليات والمنتديات للحوار حول القضايا الإقليمية الملحّة. وقد تنشأ في المستقبل منظمة في الشرق الأوسط تلعب الدور الذي لعبته منظمة الأمن والتعاون في أوروبا خلال الحرب الباردة، الأمر الذي سيزيد من مستوى الشفافية حول قضايا عدم انتشار الأسلحة والقضايا العسكرية. غير أن سجل لجنة “ضبط التسلح والأمن الإقليمي” يوضح طبيعة العوائق التي تحول دون النجاح. وثمة تدابير أخرى متعددة الأطراف وأقل طموحاً قد تحذو حذو النموذج الذي طرحه “مركز بحوث تحلية المياه”، وتركز على تحديات ملحة لا علاقة لها بالناحية الأمنية مثل تغيّر المناخ، والاستعداد لمواجهة الكوارث والأوبئة، والزلازل. وحيث إن الاستجابات على المستوى الوطني لهذه المشاكل تكون أكثر فعالية بما لا يُقاس مع زيادة التعاون الدولي، فقد تتوفّر للحكومات الحوافز اللازمة لإقامة ملتقيات للمهنيين مثل علماء الوبائيات، وعلماء الزلازل، أو أوائل المستجيبين، لتبادل المعلومات والخبرات أو الممارسات الفضلى.
دعم الدول المحايدة: سعت بعض الدول، وفي مقدمتها الكويت، وعُمان، وتونس، والسلطة الفلسطينية، ومؤخّراً العراق، إلى رسم مسارات مستقلة لنفسها في الفضاء الإقليمي الحافل بالاضطراب في الآونة الأخيرة. لكن الضغوط تتعاظم عليها للانحياز إلى هذا الطرف أو ذاك مع تدويل المنازعات وتصلّب الكتل الإقليمية. وقد فرضت المملكة العربية السعودية ضغوطاً كبيرة على البلدان العربية الأصغر لمساندة سياساتها تجاه اليمن وقطر، بينما ضغطت إيران على العراق لدعم سياساتها في سورية. غير أن الحياد يؤدي دوراً محتملاً مهمّاً في المنطقة، كحاجز جيو-استراتيجي لمقاومة الضغوط، أو كوسيط محتمل للتدخّل لإصلاح ذات البين في المستقبل. وسيكون من باب الحكمة أن يدعم اللاعبون الإقليميون والدوليون استقلال هذه الدول.
المسار الثاني: إن لدبلوماسية “المسار الثاني” (التي تشمل استخدام قنوات خلفية للتواصل بين مواطنين في القطاع الخاص يتصرّفون على أساس غير رسمي) تاريخاً عريقاً في الشرق الأوسط. ومع أن النتائج قد تكون متفاوتة، فإن الاختراقات الدبلوماسية – مثل اتفاقيات أوسلو للسلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين العام 1995، واتفاقية “خطة العمل الشاملة المشتركة” العام 2015 بين إيران والدول 5+1 (أي الصين، وفرنسا، وروسيا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة، زائد ألمانيا)- غالباً ما تعتمد على خبرات غنية في ميدان الاتصالات غير النظامية والمفاوضات غير الرسمية. وينبغي على الفاعلين الدوليين، وبخاصة في الأوقات التي تبدو فيها إمكانيات الدبلوماسية الرسمية محدودة، أن يدعموا جهود “المسار الثاني” وعلى جميع الخطوط في نزاع الشرق الأوسط لإتاحة المجال للمشاركين المؤثرين أن يستكشفوا الآفاق البديلة في المستقبل. ونظراً إلى ارتفاع مستوى النزعات الطائفية والراديكالية الجذرية، من الضروري إشراك المزيد من الزعماء الدينيين والشباب في هذه المساعي.
مُصَعِّدات الصراع (2): انتشار التدخّلات الخارجية
تعود ثلاث من الحروب الأهلية الأربع في المنطقة – في ليبيا، وسورية، واليمن – إلى أصول محلية منذ العام 2011، بينما ترتبط الحرب الأهلية العراقية ارتباطاً لا فكاك منه بالغزو الذي تزعمه الأميركيون في 2003. ومع أن لكل نزاع خصائصه الفريدة المتميّزة، فإن ثمة مكونات مشتركة في الحالات الأربع: الأنظمة الاقتصادية الاجتماعية الآيلة للسقوط، والريعية الفاسدة، والنزعة السلطوية المتوحشة (انظر الفصلين في هذا التقرير عن الاقتصاد السياسي والحوكمة في الدول العربية). ومع مرور الوقت، استفحل كل واحد من هذه النزاعات وغدا إقليمياً ودولياً في الوقت نفسه.
وبصرف النظر عما إذا كان فك ارتباط الولايات المتحدة بالشرق الأوسط يمثّل خطأ فاضحاً، أو تعديلاً لمسار، أو ضرورة مالية، حاولت القوى الإقليمية والدولية ملء الفراغ الناجم عن ذلك. ففي جميع أرجاء المنطقة، تتدخّل الدول الآن في شؤون جاراتها بمعدلات غير مسبوقة، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً. وقد تحرّك شركاء الولايات المتحدة ومنافسوها على حد سواء لحصد أدوار أعظم لأنفسهم في المنطقة. إن الصراعات في ليبيا وسورية واليمن لازالت مستمرة لأن القادة المحليين، شأنهم شأن شركائهم الدوليين، يعتقدون أن في وسعهم تحقيق أهدافهم الاستراتيجية من خلال انتصارات عسكرية تتعادل فيها المكاسب والخسائر للطرفين كليهما. غير أنهم قد يكونون على خطأ في هذا الاعتقاد، كما أثبتت معاناة الولايات المتحدة التي استمرت خمس عشرة سنة في العراق. ففي العام 2003، أطاحت الولايات المتحدة بصدام حسين في أقل من ثلاثة أسابيع. غير أن انتصار الولايات المتحدة العسكري المدوّي، مهّد السبيل لاحتلال عسكري استمر نحو عقد كامل، ولتحول في أصوات الناخبين في الولايات المتحدة ضد تلك التدخّلات، ما أسفر عن التقوّض التدريجي “للسلام الأميركي” في الشرق الأوسط. ومع أن الولايات المتحدة لازالت القوة العسكرية التي لا تقارَع في المنطقة، واجهت واشنطن في السنوات الأخيرة صعوبة في خدمة مصالحها، بل حتى في تحديدها أحياناً، كما فشلت محاولاتها لتحويل قدرتها العسكرية إلى إنجازات سياسية دائمة في الشرق الأوسط.
تشير الدلائل المبكّرة إلى أن هذه الدول التي تتدخّل الآن في الصراعات الإقليمية، خصوصاً عندما ترمي إلى بلوغ أهداف سياسية عريضة، لا مجرّد غايات دفاعية، قد تشهد نتائج مماثلة. فقد حمت إيران، بل خدمت، مصالحها الأمنية في سورية عن طريق تدخّل عسكري وحشي، بالتعاون مع روسيا، ساعد في تشديد قبضة حكومة الأسد على مقاليد السلطة على حساب تضحيات بشرية مفزعة. كما حافظت إيران على الجسر البري الذي يربطها بحزب الله، ووسّعت نفوذها على الأرض ليصل إلى عتبة إسرائيل في مرتفعات الجولان. غير أن سورية ربما تصدعت الآن بحيث يتعذّر إصلاحها، كما أن ثمة انشقاقات في إيران التي لا يبدو أن جماهيرها راضية عن تجربتها، كما الجماهير الأميركية قبل عقد من الزمن. ومن الحوافز الدائمة للتململ الشعبي الذي استبد بالإيرانيين منذ كانون الأول/ديسمبر 2017 السخط المتعاظم على ما قد يعادل العشرين مليار دولار التي أنفقت لدعم الأسد عسكرياً واقتصادياً.7 وهذا المبلغ لا يشمل المبالغ الأقل التي أنفقت على الحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان والجماعات الإرهابية الأخرى في العراق، وفلسطين، وسورية وغيرها. وفي تلك الأثناء، تسبّب التضخم الكاسح ومعدلات البطالة العالية في اختلالات اقتصادية كبيرة في البلاد.
في اليمن، حقق التحالف الذي تتزعمه المملكة العربية السعودية ضد المتمردين الحوثيين بعض المكاسب المرحلية البطيئة منذ العام 2015. غير أن النصر الحاسم لازال يراوغ ويلوح ويختفي. وقد استُعيدت تحت إمرة الحكومة، اسمياً، مدناً عدة، منها عدن ومُخا والمكلّا وتعز، غير أن القوات الموالية للحكومة لازالت تحاول فرض السيطرة عليها. وكانت المحصلة هي شرذمة اليمن التدريجية البطيئة التي تزامنت مع انهيار كارثي في الأوضاع الإنسانية. ومن الصعب أن نستشف النهاية بعد نحو أربع سنوات من الحملة.
ميزانية الدفاع في المملكة العربية السعودية مثلها مثل إيران، سرّية، غير أن نفقاتها في اليمن قُدِّرَت بما يتراوح بين 3 مليارات و5 مليارات دولار شهريا.8 وإذا نظرنا إلى ما حققته إيران والمملكة العربية السعودية من أهداف في سورية واليمن على التوالي، فإن تلك لن تكون بالتأكيد أكثر من انتصارات فادحة الكلفة.
لا يعني كل ذلك أن ثمة إجابات سهلة عما إذا كان من الممكن اعتبار التدخّلات الخارجية في النزاعات المحلية مبرَّرة أو ناجحة. ويسود الاعتقاد على نطاق واسع أن التدخّل العسكري الأميركي في العراق العام 2003 قد خلّف مشاكل محلية وإقليمية هائلة في الشرق الأوسط، واضطرابات سياسية داخلية في الولايات المتحدة كذلك. غير أن التدخّل الذي تزعمته الولايات المتحدة العام 1991 لدحر الغزو العراقي للكويت يُعتبر على العموم مبرَّراً وناجحاً. ويعود ذلك، في جانب منه، إلى أن أهدافه العسكرية كانت محدودة.
في المقابل، لم يُعرف بعد رأي المحليين حول مآلات تدخّل الناتو في ليبيا والتدخّل المعادي للدولة الإسلامية في سورية والعراق. ويعود ذلك جزئياً إلى أن النتائج النهائية غير معروفة حتى الآن. فهل كان التدخّل في ليبيا يمثّل انتهاكاً للحقوق الإنسانية، وزعزعة الاستقرار البلاد، وتمهيداً لسبيل الجهاديين؟ أم أنه أنقذ الليبيين من مذبحة مدنية كبرى مماثلة لما حدث في سورية؟ وفي ما يتعلق بسورية، هل كان من الحكمة أن تبقي الولايات المتحدة نفسها خارج نزاع محلي وتقصر أهدافها على إلحاق الهزيمة بمنظمة إرهابية دولية؟ أو هل قوّضت بذلك الأعراف الدولية عندما تجاهلت الوحشية الرهيبة ومهّدت الطريق لتعزيز النفوذ الإيراني والروسي في المنطقة؟ بل هل لازال قرار الولايات المتحدة بإبقاء وجودها العسكري في شرقي سورية ضرورياً ولا نهاية له للحيلولة دون حدوث فراغ خطير للقوى في المنطقة، أما أنها بدأت بالانزلاق تدريجيا إلى تدخّل مفتوح يفتقر إلى أهداف قابلة للتحقيق؟
لابد لكل حرب أن تنتهي. لكن عندما تنتهي الصراعات المدنية بتسويات سياسية لا بانتصارات عسكرية مؤكّدة، فمن المرجح أن يشكك المتحاربون بإمكانية احترام هذه الاتفاقيات والالتزام بها، ما لم تكن مصحوبة بشكل من آليات التنفيذ الدولية. من هنا، فحتى عند التوصل إلى تسويات سياسية للنزاعات في الشرق الأوسط،9 يُستبعد أن تتكلّل بالنجاح ما لم تعزّزها قوة لحفظ السلام.
وهنا تبرز إمكانية أن تنطوي تسويات النزاعات الحالية في المستقبل على الشرارات التي قد تتسبب في نشوب نزاعات جديدة وظهور متحاربين جدد. ويصدق ذلك بصورة خاصة على سورية، حيث يمكن أن نتصوّر نشوء نزاعات جانبية من اتجاهات عديدة، تواجهها تدخّلات عسكرية مستمرة من جانب إيران وإسرائيل وتركيا والولايات المتحدة وحزب الله.
توصيات السياسة العامة
تواجه الجيوش في المجتمعات السلطوية التي لاتخضع فيها الحكومات إلى المساءلة من جانب المواطنين، تقييدات أقل على إدارة شؤون الحرب مما تواجهه الجيوش في المجتمعات الديمقراطية. من هنا، قد يتطلّب خفض مستوى التدخّلات الدولية من المواطنين العرب، على المدى الطويل، أن يلعبوا دوراً أكبر في حوكمة مجتمعاتهم. وقد غدت الولايات المتحدة وأوروبا، اللتان عانتا من تجارب سابقة ومن نتائجها السياسية المحلية، أكثر حذراً، بينما تجدّدت ثقة الروس في النزعة التدخّلية. وعلى كل حال، ثمة خطوات قد تحدّ مع مرور الوقت من إضفاء نزعة إقليمية على نزاعات الشرق الأوسط.
المزيد من التدخّلات الأضيق نطاقاً: إذا شعر القادة الإقليميون بأن عليهم الاستمرار في التدخّل في الشرق الأوسط، فلابد أن يدركوا أن من صالحهم أن يقوموا بذلك بطريقة أضيق نطاقاً. وعند النظر إلى تدخّل الولايات المتحدة في العراق، وروسيا وإيران في سورية، والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية في اليمن، يتبيّن لنا أن التدخّلات في الشرق الأوسط تميل إلى أن تبدأ كعمليات عسكرية قصيرة الأمد وذات أهداف عسكرية محدودة، ونتطور بعدها إلى التزامات مفتوحة ذات أهداف سياسية أعرض. وقد يقتدي القادة الذين يفكرون بالتدخّل بخصائص التدخّل ضد العراق العام 1991: فقد اعتمد التدخّل عموماً على مبدأ مقبول عالمياً (يحظر استخدام القوة ضد سلامة أراضي دولة ذات سيادة)؛10 وكان له هدف محدد ومحدود (هو رد الغزاة وإعادة الحكومة الكويتية المعترف بها دولياً)؛ وتمتع بتأييد كافٍ (مع أنه غير كامل) داخل المنطقة العربية وخارجها؛ كما أن التدخّل لم يولّد فراغاً في القوة؛ وانتهى بعد أن حقق أهدافه المحدّدة.
التخطيط لإحلال السلام: توضح الأدبيات الأكاديمية المكثّفة، أنه ما لم تكن هناك قوة لإحلال السلام ونزع سلاح الفاعلين غير الدولتين، فإن معدل انتكاسة التسويات المتفق عليها يكون عالياً. وبالنظر إلى ضخامة التعقيدات التي تنطوي عليها عملية حفظ السلام في البيئات القابلة لعدم الاستقرار بعد انتهاء النزاع (على افتراض أنها تشمل بقايا الميلشيات المسلحة خارج نطاق الدول والجماعات الإرهابية) فإن من الضروري إيلاء اهتمام مركّز على الكيفية التي سيتم بها تنفيذ التسوية السلمية المستقبلية وإقرارها، ومدى الحاجة، عند الضرورة، لتفعيل آليات نزع السلاح، وتسريح المجندين، وإعادة دمج الجماعات المتحاربة. وفي هذه الحالات جميعها، سيكون من المتوقع ظهور صراعات أصغر بعد النزاع بين الأحزاب والأطراف المحلية، ولابد أن تُدرج في تسويات النزاع على المستوى الوطني آليات لفض النزاعات بشكل سلمي (من خلال التنافس السياسي، والتوسط، وما إلى ذلك).
مُصَعِّدات الصراع (3): مبيعات السلاح الفلكية
بالإضافة إلى التدخّل العسكري المباشر، يتدخّل الفاعلون الخارجيون على نحو غير مباشر كذلك، عن طريق بيع السلاح والمساعدة الأمنية التي قد تبدو وسيلة جذابة للتأثير على مسارات النزاع بدون استخدام الجنود أو القيام بعمل عسكري. علاوةً على ذلك، قد تجلب مبيعات السلاح بالنسبة إلى كبار المصدّرين، مثل الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، وكذلك روسيا والصين، فوائد اقتصادية مهمة، وهي غدت من الأولويات الدبلوماسية وعاملاً في تحقيق مكاسب سياسية للقادة في الدول المصدرة.
إن الشرق الأوسط هو المنطقة الأكثر عسكرةً في العالم ومع أنه، من الناحية العددية، يشكّل ستة في المئة من سكان العالم، ويسهم بستة في المئة فقط من الناتج الإجمالي المحلي فيه، فإنه يمثّل ما يقرب من ثلث واردات السلاح في الفترة بين عامي 2013 و2017 – أي أكثر من ضعفي وارداته بالمقارنة مع السنوات الخمس السابقة.11
إن ثلاثاً من الدول – المملكة العربية السعودية، ومصر، والإمارات العربية المتحدة – هي من أربع دول تتصدّ، قائمة مستوردي السلاح في العالم (كما أن الجزائر والعراق يقعان في قائمة العشرة الأوائل) بين عامي 2013 و2017. وقد تدخّلت البلدان الثلاثة، عسكرياً في الدول المجاورة (المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة في اليمن، ومصر في ليبيا) منذ العام 2013. وكانت تركيا وإسرائيل (وهي كذلك مصدِّر مهم للسلاح) من الدول العشرين التي تتصدّر قائمة مستوردي السلاح، بينما استوردت إيران قدر أقل بكثير من السلاح ومن روسيا والصين أساساً) جرّاء العقوبات الدولية المفروضة عليها. 12
في تلك الأثناء، كانت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أكبر مصدّر للسلاح بين عامَي 2013 و2017، وكان نصيبها 34 في المئة من المجموع العالمي، وتلتها روسيا وفرنسا، وألمانيا والصين والمملكة المتحدة. وكانت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة هما المصدران الأساسيان للعربية السعودية، بينما قامت الولايات المتحدة وفرنسا بإمداد مصر والإمارات العربية المتحدة بالسلاح. وقد قلّصت ألمانيا مبيعاتها إلى البلدان العربية، مع أنها ظلت مصدِّرا أساسياً إلى إسرائيل.13
إن المذكرة الرئاسية التي أصدرها دونالد ترامب في نيسان/أبريل 2018 حول تنسيق الإجراءات الخاصة بانتقال السلاح بالطرق التقليدية، لا تنكر المزايا والفوائد الاقتصادية لتصدير السلاح؛ فالفقرة الأولى منها تشيد ﺑِ “قاعدة الصناعة الدفاعية الديناميكية التي تستخدم مايزيد على 1.6 مليون شخص”.14 كما أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون روّج بنشاط مبيعات السلاح إلى الشرق الأوسط، على الرغم من تعاظم حملات النقد ضد المساوئ المحتملة المتعلقة بالتكنولوجيا التي يجري تصديرها. بالإضافة إلى المنافع الاقتصادية، يرى المدافعون عن تصدير السلاح في الدول الديمقراطية أن مبيعات السلاح وبرامج المساعدة الأمنية قد تساعد على إضفاء المهنية على المؤسسات العسكرية الناشئة، وقد تُولّد بذلك تأثيراً اعتدالياً على البلدان المتلقية لهذه المعونات.16 ويشدّد المسؤولون الأميركيون على الحاجة إلى الارتقاء بقدرات الدول الحليفة وتعزيز إمكانية قيامها بعمليات مشتركة مع القوات الأميركية.
لكن، هل هناك من دلائل حقّاً على أن تزايد إمداد السلاح قد ساعد على تعزيز الاستقرار في الشرق الأوسط، أو حتى تحقيق النصر للحلفاء الرئيسين؟ من المؤسف أن وحشية الصراعات المعاصرة في الشرق الأوسط توحي بأن طوفان الأسلحة صب الزيت على النار وأطال هذه النزاعات وجعلها أشد فتكاً.
قلما تكون مبيعات السلاح إلى المتحاربين في نزاع ما عاملاً حاسماً، بل هي تستدعي بدلاً من ذلك رد فعل معاكساً من جانب الدول المعارضة، الأمر الذي سيفاقم النزاع بدل إطفائه. وهكذا، تزامنت إمدادات السلاح من الولايات المتحدة وأوروبا إلى التدخّل السعودي الإماراتي في اليمن مع تزايد دعم إيران لحلفائها الحوثيين.17 كما أن الإمدادات من الولايات المتحدة وبلدان أخرى خليجية إلى المتمردين السوريين ساعدت أول الأمر على ترجيح الكفة لصالحهم ضد الجيش السوري. غير أن هذا الدعم شجّع إيران كذلك على تصعيد مساندتها للنظام السوري، وحالما اتضح أن إدارة أوباما لن تقوم بأي عمل عسكري مباشر ضد القوات المسلحة السورية، اغتنمت روسيا الفرصة للتدخّل وإلحاق الهزيمة بهؤلاء المتمردين أنفسهم. وأدى ذلك إلى تغيير مسارات النزاع.
الأسوأ من كل ذلك أن السلاح الذي تزوّد به المؤسسات العسكرية في البلدان الهشة أو الحافلة بالفساد، قد يتسرّب ويقع بين أيدي الإرهابيين والميلشيات وفاعلين آخرين غير دولتين. فعلى الرغم من أن الحوثيين، كما تفيد بعض التقارير، تلقّوا قذائف صاروخية إيرانية الصنع، يشمل مخزونهم من القذائف الصاروخية أسلحة روسية وكورية شمالية زوّدت أصلاً للجيش اليمني وتم الاستيلاء عليها خلال تقدم الحوثيين في العامين 2013 و2014.18 ويشير مسح شامل أجراه “مركز أبحاث التسلح خلال النزاعات” على أن 40000 من قطع السلاح التي تم الاستيلاء عليها من مقاتلي الدولة الإسلامية في سورية والعراق كانت قد أنتجت في الأصل في روسيا والعراق (وجاء كثير منها من الجيشين السوري والعراقي)، وأن 30 في المئة جاء في الأصل من الدول التي كانت أعضاء في حلف وارسو في أوروبا الشرقية. وكان ثلاثة في المئة من تلك الأسلحة و13 في المئة من الذخيرة من الأنواع المستخدمة في الناتو، ويُفترض أنه تم الاستيلاء عليها من الجيش العراقي أثناء تقدّم قوات الدولة الإسلامية العام 2014.19
في إحدى الحالات، ذكرت بعض التقارير أن أحد الأسلحة الموجّهة المضادة للدبابات صُنعت في أوروبا وبيعَت للولايات المتحدة، وزوّدت به سورية، ونقل إلى الدولة الإسلامية في العراق – حيث اكتشف. وقد جرى ذلك كله خلال شهرين بعد خروج هذا السلاح من المصنع.20 ومن سوء الحظ أن أجهزة السلاح المتقدم التي تباع للحكومات السلطوية العربية اليوم قد يستخدمها المقاتلون المتمردون في حروب المستقبل.
وماذا بشأن الحجة القائلة بأن المساعدة الأمنية ومبيعات السلاح قد تولّد تأثيرا اعتداليا على البلدان التي تتلقى هذه المعونات؟21 تشير الدلائل هنا أيضاً إلى غير ذلك. وما علينا إلا أن نأخذ على سبيل المثال، المساعدة الأمنية الأميركية لمصر، ومبيعات السلاح إلى المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
منذ اتفاقيات كامب ديفيد العام 1978، زوّدت الولايات المتحدة مصر بما يعادل 1.3 مليار دولار من المساعدة الأمنية سنوياً، أي ما مجموعه 46 مليار دولار.22 ومع أنه كان من المؤمل أن تؤدي هذه المساعدة إلى عَصْرَنة ومَهْنَنَة المؤسسة العسكرية في مصر وتجريدها من طابعها السياسي، فإن ما حدث بالفعل كان عكس ذلك. ففي العام 2013، أطاح وزير الدفاع آنذاك (ورئيس الجمهورية الآن) عبد الفتاح السيسي بمرحلة ديمقراطية وجيزة، وتصاعدت منذئذ بصورة حادة الهيمنة العسكرية على الحياة السياسية والاقتصادية. كما تزايدت الانتهاكات الصارخة لحقوق الانسان، ما أسفر عن قيام عصيان في سيناء، واستفحال التطرّف في أوساط الشباب في السجون. وقد بذلت الولايات المتحدة جهودها لاستخدام ما تقدمه من مساعدة كوسيلة لتحقيق أهداف أخرى، فقد أوقفت إدارتا أوباما وترامب جانباً من المساعدة والمعدّات جرّاء انتهاكات حقوق الإنسان المفزعة وغياب التعاون بأشكال أخرى في مصر، غير أنهما أقرّتا بالعجز واستأنفتا تقديم المعونة من دون تحقيق أي هدف بالمقابل. وبذلك فقدت تلك المساعدات جدواها الممكن كرافعة سياسية.
وقد بيّنت مراجعة لمبيعات السلاح الأميركية العام 2017 أن ما لا تقل قيمته عن 659 مليون دولار مما بيع للمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة من القنابل الموجّهة بالليزر والذخائر، وكذلك البنادق، قد استخدم في العمليات القتالية في اليمن.23 لكن ليس هناك ما يدل على أن الدعم الأميركي للحملة السعودية-الإمارتية سرّع تحقيق نصر عسكري للحلف (بحيث قلل فترة النزاع) أو خفض معدل الإصابات بصورة كبيرة في اليمن. كما أن أنظمة السلاح أميركية الصنع قد استهدفت حافلات المدارس، والمآتم، والمستشفيات.24 وبعد أربع سنوات من الحرب، وصف الوضع هناك بأنه أسوأ أزمة إنسانية في العالم، حيث يتضوّر ملايين اليمنيين جوعًا. وقد حظّرت ألمانيا وإسبانيا بيع السلاح للأطراف المتحاربة، وتصاعدت الضغوط في المملكة المتحدة والولايات المتحدة للتصرّف على هذا النحو، ولاسيما بعد أن كشف تقرير أصدرته الأمم المتحدة النقاب عن أن ممارسات الطرفين في النزاع ترقى إلى مستوى جرائم الحرب.25
علاوةً على ذلك، تبيّنت أيضاً استحالة التعاون العملياتي البيني. فقد تعاونت الولايات المتحدة في بعض الحالات مع الجيوش العربية لتحقيق أهداف مشتركة: حدث ذلك في العام 1991 لطرد القوات العراقية من الكويت؛ وفي التدخّل في ليبيا العام 2011، وفي الحرب الأخيرة ضد الدولة الإسلامية في العراق وسورية. لكن الجيوش العربية تستخدم، بصورة متزايدة، السلاح والتكنولوجيا والتدريب الذي حصلت عليه من الغرب لتنفيذ تدخّلات لا تروق للغرب بالضرورة – مثل القوة الخليجية التي سحقت انتفاضة البحرين السلمية العام 2011، والحملة السعودية الإماراتية القائمة الآن في اليمن، والحملة المصرية الإماراتية الآن لصالح المشير خليفة حفتر في ليبيا.
توصيات السياسة العامة
تحديد نطاقات جديدة لبيع السلاح: ينبغي على الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين أن تدرس الظروف التي تزوّد فيها دول الشرق الأوسط بالسلاح، وأن تدقّق كذلك في منافسيها غير المناسبين في هذا المجال. إن مثل هذه الأسلحة تلهب الصراع في تلك البلدان وتؤدّي إلى تهديد أمنها الجماعي عن طريق الهجرة والإرهاب. وللإقلال من احتمال تسرّب الأسلحة إلى فاعلين خارج نطاق الدولة، فإن عليها تضع قيودا مشدّدة على بيع أنظمة الأسلحة المتقدمة للبلدان الهشة، لتفادي أخطار اندلاع نزاعات داخلية في المستقبل. كما أن على الولايات المتحدة وحلفائها كذلك أن تشدّد القيود على المبيعات للدول التي تمارس الإساءة الجسيمة لحقوق الإنسان ضد مواطنيها.
المساعي الدبلوماسية لتوسيع المعايير للحد من بيع السلاح: على الدول الغربية أن تتوصل إلى اتفاقيات مبدئية في ما بينها، وأن تنطلق من هذه المبادئ لردع مصدري السلاح الآخرين مثل روسيا والصين. وسيكون لهذه السياسات أثر محدود على البلدان التي لاتقوم بالتدخّل، مثل المغرب، وتونس، والأردن، مع أن بعض الأنظمة المتقدّمة قد تتأثر بذلك. غير أن هذه السياسات قد تحدّ من بيع السلاح لبلدان مثل العراق وليبيا (نظراً لما تمارسه من إساءة لحقوق الإنسان)، وكذلك المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة (لتورّطها في الصراع الدائر في اليمن).
مُصَعِّدات الصراع 4: الافتقار الإقليمي لمعايير النزاع
تاريخ الشرق الأوسط الحديث حافل بالصراعات، وبخاصة الحروب العربية-الإسرائيلية العديدة، التي كانت في أغلب الأحيان قصيرة الأمد، وشاركت فيها في العقود الأخيرة جهات من خارج نطاق الدولة مثل حماس وحزب الله. غير أن التدخّلات العسكرية من إحدى الدول العربية إلى دولة أخرى في هذا لم تكن شائعة نسبياً قبل العام 2011. وتشمل الاستثناءات الملحوظة في هذا المجال تدخّل مصر في اليمن بين العامين 1963 و1967، واحتلال سورية للبنان في الفترة من 1976 و2005، واحتلال العراق للكويت في 1990/1991. وكانت الحرب المدمّرة بين إيران والعراق بين العامين 1980 و1988 نزاعاً تقليدياً بين دولتين أكثر منه تدخّلاً من دولة قوية في شؤون دولة أضعف. في المقابل، تدخّلت الدول العربية وإيران عسكرياً في أربع دول أخرى (سورية واليمن وليبيا، بالإضافة إلى تدخّل وجيز لقمع انتفاضة في البحرين)، وكذلك سياسياً في بلدان أخرى (أبرزها دعم الانقلاب دعم الانقلاب العسكري في مصر العام 2013). لقد أدّى امّحاء الخطوط الفاصلة بين المدنيين والمحاربين، وغياب الإجماع الدولي حول كيفية إنهاء هذه النزاعات، إلى خلق بيئة غدت فيها الانتهاكات الفاحشة للقوانين الإنسانية الدولية أمراً شائعاً، ولاسيما في سورية واليمن، ولكن في العراق وليبيا كذلك. وتشمل هذه الإساءات، من جملة أمور أخرى، القصف العشوائي للسكان المدنيين في المراكز الحضرية، التطهير الإثني العرقي ونزوح المدنيين على نطاق واسع، والعنف الجنسي واسع الانتشار، واستخدام السلاح الكيميائي، الحرمان من الوصول إلى المساعدات الإنسانية، واستخدام التجويع كسلاح، وقصف المستشفيات والمدارس.
لم تكن معايير النزاع وآليات فض النزاعات على الإطلاق قوية في الشرق الأوسط، بالمقارنة مع مناطق أخرى. ولم تكن منظمات مثل جامعة الدول العربية (التي تأسّست العام 1945 في الأصل ردا على النزعة الكولونيالية الأوروبية ومحاولات تأسيس إسرائيل)، ومجلس التعاون الخليجي (الذي أقيم العام 1981 بعد الثورة الإيرانية والحرب الإيرانية العراقية التي تلتها) نشطة أو شاملة كالهيئات التي أقيمت في مناطق أخرى، مثل منظمة الوحدة الأفريقية، ومنظمة الدول الأميركية، أو رابطة دول جنوب شرق آسيا. وفي حين أن وثائق الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي تتضمّن الالتزامات والآليات الخاصة بالتسويات السلمية للنزاعات بين الدول الأعضاء، إلا أنها تفتقر إلى الآليات الجديرة بالثقة لغرض النتائج، مثل فرض العقوبات على الأعضاء لعدم امتثالهم إلى شروط العضوية قبل طردهم من المنظمة. كما أنها خضعت إلى حد كبير للهيمنة من جانب دولة أو دولتين في المنطقة، وغالبا ما تكون مصر أو المملكة العربية السعودية، واتحاد الإمارات العربية في الآونة الأخيرة – الأمر الذي أدى إلى إساءة التعامل مع تلك المنظمات أو التخلي عنها مع السعي لتبني أجندات محدودة وضيقة أخرى، من نوع النزاع الدبلوماسي الذي ابتدأ في العام 2017 بين المملكة العربية السعودية والإمارات من جهة، وقطر من جهة أخرى.
من المرجّح أن تأسيس أعراف جديدة حول الصراع وتعزيز المعايير القائمة ستكون عملية طويلة، وقد تستغرق عدة أجيال، غير أنها لابد أن تكون جزءاً من الأجندة الدولية حول الشرق الأوسط. فبلدان الشرق الأوسط جميعها صادقت على اتفاقيات جنيف، وعلى هذا الأساس، فإن القادة السياسيين والعسكريين خلال العمليات الحربية.
توصيات السياسة العامة
يدلّنا التاريخ على أن الأعراف يصار إلى تأسيسها بعد النزاعات، لا خلالها. فقد وضع بروتوكول جنيف العام 1925 كرد فعل على استخدام الأسلحة الكيميائية على نطاق واسع في الحرب العالمية الأولى. أما اتفاقيات جنيف الأكثر اتساعاً، والتي تشكّل الأساس للقانون الدولي الإنساني الحديث، فقد جرى التفاوض في شأنها بعد فظائع الحرب العالمية الثانية. من هنا، فإن نهاية الصراعات الدائرة الآن ستوفّر في المستقبل فرصة لتعزيز الأعراف. بيد أنه من الممكن اتخاذ عدد من الخطوات التفاعلية الآن:
تجديد الالتزام بأعراف النزاع الدولية: ينبغي تشجيع منظمات مثل الأمم المتحدة، والجامعة العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، على الإعلان مجدّداً عن التزامها بالقانون الدولي الإنساني. ويجب حضُّ القادة السياسيين على أن يصرّحوا علناً بما سيكون عليه الوضع عند إحلال السلام – أو نهاية النزاع على الأقل في حالات نزاع محددة. وعلى المانحين الخارجيين أن ينظروا في تعزيز الدعم لحوار “المسار الثاني” حول معايير الحرب، بما في ذلك النقاشات في أوساط رؤساء الطوائف الدينية والمربين، لاستخدامها مع الجماهير في البلدان العربية.
القيادة بطرح القدوة الحسنة: يجب على الولايات المتحدة والدول الأوروبية وإسرائيل أيضاً أن تعترف بالآثار السيئة للخطوات التي اتخذتها تحت ستار مكافحة الإرهاب، بما فيها أساليب التحقيق المطوّلة، والتعذيب الوحشي، وكذلك التكتيكات العسكرية مثل قصف التجمعات البشرية عشوائيا بطائرات بدون طيار (التي تستهدف القتل الجماعي على أساس الشبهة وأنماط السلوك) والاغتيالات المستهدِفة (وهي، منذ أمد بعيد، من عناصر مقاربة إسرائيل لمكافحة الإرهاب). والمضي قدما من جانب الولايات المتحدة والدول الأعضاء في الناتو وإسرائيل يتطلّب وضع قواعد اشتباك أكثر تشدّداً.
التدريب في ميدان القانون الدولي الإنساني: ينبغي أن يكون التدريب في ميدان القانون الدولي الإنساني جزءاً أساسياً من مناهج تدريب فرق الضباط والجنود على حد سواء. ويجب على مقدمي المساعدات الأمنية وبائعي السلاح أن يتشدّدوا في توفير الحصول على أنظمة السلاح المتقدمة شريطة قيامهم بهذا التدريب.
متابعة المساءلة والمحاسبة: من المحتم أن تبرز إغراءات باللجوء قدر المستطاع إلى أفضل السبل لإنهاء الحرب، بما في ذلك الضمانات بأن أطراف النزاع لن تخضع إلى المساءلة، إلا أن على الفاعلين الدوليين والمنظمات أن تأخذ بالحسبان الأهداف المنشودة من إقرار مبدأ المساءلة ومن الارتقاء بمستوى المعايير الخاصة بتخفيف حدة النزاعات والحيلولة دون وقوع الفظاعات في المستقبل. ويعني ذلك، في سورية واليمن بشكل خاص، دعم الجهود المبذولة لجمع وحماية الدلائل ضد مقترفي جرائم الحرب. ويجب على الحكومات، في المنطقة وخارجها، أن تمتنع عن تطبيع العلاقات مع حكومة الأسد التي ما فتئت تواصل بصورة خاصة ارتكاب جرائم الحرب البشعة.
خلاصة
اعتبر الشرق الأوسط منطقة متميّزة بين أقاليم العالم من حيث تواتر الصراعات وشدتها لأمد طويل، لكن ينبغي الإقرار الآن بأنه يتميّز كذلك بقلة قنوات التواصل الإقليمي فيه، وآليات فض النزاعات، وقلة المعايير حول مجريات الحرب، مع فائض وفير من واردات السلاح. وثمة فرص أمام دول الإقليم والفاعلين الدوليين لفتح القنوات لحل النزاعات الحالية، وربما تحول بذلك دون اندلاع نزاعات في المستقبل.
إن الاضطرابات الداخلية، وصراعات القوة بين دول الإقليم، والمشاجرات بين الدول المتجاورة قد تستمر على الأرجح في المنطقة التي تصارع الآن لإقرار توازن جديد، لأن النماذج الاقتصادية والعقود الاجتماعية القائمة منذ عقود بدأ يعفو عليها الزمن. لكن ليس ثمة ما يحتّم ترجمة هذه المشاكل وتحويلها إلى نزاعات مسلحة واسعة الانتشار تتسبب في معاناة إنسانية مهولة، وفي تدمير مؤسسات الدولة، بالإضافة إلى انتشار هذه النزاعات في المناطق المجاورة.
يناقش فصل سابق من هذا التقرير التحديات التي تطرحها قضايا اللاجئين والنازحين. وهنا تكفي الإشارة إلى أن المساعدة الدولية الإنسانية المستمرة للاجئين والنازحين الآخرين في الشرق الأوسط ستكون ضرورية في المستقبل القريب، وستطرح كذلك تحدي الاستمرار مع مرور الوقت عندما تبرز تحديات إقليمية ودولية جديدة. إن ثروة منطقة الشرق الأوسط لا تتمثّل، آخر الأمر، في الموارد الهيدروكربونية أو أنظمة السلاح المتقدمة، بل في سكانها الشباب المسلّحين بالحيوية والنشاط.
دكتور القانون العام ومحكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان