امتلك الرجل شخصية شعبوية مكنته من إدارة الصراعات داخل المجموعة الحاكمة لصالحه ولصالح سلطته. في نفس الوقت تمتع بسحر وكاريزما مؤثرة في المحيطين به، وبدا كقائد حكيم وقوي وقادر على كل شيء. استطاع أنْ يقدم نفسه في صورة البطل المهاب رغم صغر سنه، فكانت الصورة الخارجية مناقضة للشخصية الحقيقية؛ بالضبط مثلما صور نظامه كنظام قوي ثوري تقدمي بعكس الحقيقة. امتلك قدرة عجيبة على مخاطبة الفقراء ودغدغة المشاعر القومية بالكلمات الفخمة واللغة “العميقة”، عزز نجاح هذا الخطاب إجراءات مثل تأميم قناة السويس؛ هذه العملية الناجحة التي كسرت حاجزًا نفسيًّا معينًا في العالم الثالث بعد فشل محاولة مصَّدق في إيران، ثم انتصار ١٩٥٦ السياسي والجزئي وما تبعه من تأميم الشركات الامريكية في ١٩٥٧. ومما ألهب بشدة المشاعر الوطنية المتأججة أصلًا وحققت للشعب من حيث المظهر انتصارات باهرة؛ رغم أنَّ هذا كان يخدم الإمبرياليين الجدد: الأمريكية. وقد لعبت هذه الشعارات الوطنية وإلقاء التهديدات جزافًا ضد الغرب دورًا بالغًا في تأجيج حماسة الجماهير؛ ورغم هذا الطابع للخطاب الناصري، فقد كان يمس وترًا حساسًا لدى الجماهير. فحتى مجرد الكلام بهذه الطريقة كان جديدًا على العالم العربي؛ فقبل ذلك لم يتميز خطاب القادة العرب بهذا الطابع المتطرف، ولم تبلغ لغة العظمة القومية هذا المبلغ. لقد كان هذا شيئًا أخاذًا تمامًا للجماهير؛ خاصة أنَّ رد فعل الغرب لم يكن قويًّا؛ بل كان يبدو على السطح أنَّ الناصرية تستطيع أنْ تواجه العالم كله، متحدثة عن نفسها كقوة كبرى تحمي ولا تهدد تصون ولا تبدد تبني ولا تهدم.. وقد تميز الخطاب الناصري بعد ١٩٥٥ بشدة العداء لإسرائيل، هكذا موهمًا الجماهير أنَّ الدولة تستعد لسحقها ومن ورائها كذلك. وقد لعبت هذه اللغة دورًا كبيرًا في الإحباط الحاد الذي أصاب الجماهير نتيجة لهزيمة ١٩٦٧. كما تميز خطابه بإظهار العداء للطبقات الغنية، مما كان له تأثير بالغ في مشاعر الفقراء. عزز ذلك إجراءات مثل ضرب أغنى أغنياء مصر، وطرد الملك نفسه في البداية. وقد كانت إهانة الملكية الخاصة ممثلة في الباشوات شيئًا جديدًا وفريدًا في مصر منذ صعود محمد علي باشا. ورغم محدودية الإجراءات العملية، كانت بالغة التأثير في الجماهير، لأنها أهانت شيئًا كان يبدو أنه لا يمكن قهره.في النهاية أقول إنَّ نجاح جمال عبد الناصر الكاسح في فرض سلطته المطلقة وسحر الجماهير وحتى جل مثقفي مصر والعالم العربي بخطابه إنما يعني وجود فراغ حقيقي في المنطقة وحالة خواء فكري وسياسي .. في نهاية المطاف أفاق الجميع على هزيمة ١٩٦٧ .. ومع ذلك أظن أنهم في حالة حنين حتى الآن للخطاب الناصري وشخصية جمال عبد الناصر، ببساطة لأن حالة الخواء السياسي مازالت مستمرة.