تأليف الدكتور ميلاد حنا ٢٤ يونيو ١٩٢٤ – ٢٦ نوفمبر ٢٠١٢ كاتب ومفكر سياسي وأستاذ الهندسة الإنشائية، والذي يعد واحدا من أبرز الكتاب والمفكرين المصريين.
تأثر المصري بالزمان والمكان، فعبر الزمان تراكمت لديه رقائق حضارات أربع متصلة وشفافة، فالمصري متأثر تاريخيًا بالحقبتين الفرعونية ثم اليونانية-الرومانية، وهو يتفاعل حتى الآن بالحضارتين العلويتين؛ نعني الحقبة “المسيحية القبطية”؛ أي المصرية، ثم رقائق مرحلة “الإسلام المصري”. وهذه هي الأعمدة الأربعة التاريخية.
ويتأثر المصري كذا بالمكان، فمصر “قلب الأمة العربية”، ويتكلم العربية منذ ألف عام ثم هو مطل علي البحر المتوسط فتفاعل مع حضاراته عبر التاريخ والجغرافيا. وأخيرًا مصر جزء أساسي من أفريقيا وهو انتماء هام يخص أيضًا مستقبل مصر، وهذه هي الأعمدة الثلاثة جغرافيًا. والكتاب يشرح هذه الأعمدة السبعة التي تكون في مجموعها “الشخصية المصرية”.. وهذا هو سر تفردها “التنوع”.
وبذكر الكاتب في مقدمة الكتاب أنه من كثرة ترديده للمعاني الواردة في الكتاب توهم أصدقاؤه أنه يعبر بالأعمدة السبعة عن نفسه أو ذاته، وحفزته هذه العبارة للتحليل والتأمل، فإذا به يسبح داخل نفسه، ليجد نفسه مثل كل المصريين، متأثر بالحقبتين التاريخيتين اللتين غاصتا واختفتا ولم يعد ظاهر منهما إلا الآثار والبرديات، أي الحقبة الفرعونية والتي يعود تسجيلها المكتوب والمدون إلي حكم الملك مينا، نحو عام ٣١٠٠ سنة قبل الميلاد، واستمر لعام ٣٢٢ ق.م، أي قبل غزو الأسكندر الأكبر لمصر. فبدأت الحقبة اليونانية رسميًا وإن كانت قد بدأت قبل ذلك بقرون ثقافيًا وتجاريًا، ثم تداخلت معها الحقبة الرومانية والتي بدأت رسميا عام ٣١ ق.م عقب موقعة أكتيوم عندما انتصر أوكتافيوس علي أنطونيو، لذلك امتزجا بحيث يطلق علي هذه الحقبة التوصيف المشترك؛ أي الحقبة اليونانية-الرومانية.
ويستعرض الكاتب الرقيقتين الحضاريتين الأُخريين أو العلويتين، ويعني الرقيقتين القبطية والرقيقة الإسلامية، فهما من الرقائق الحية المعاصرة، واللتان قاومتا الزمن وظلتا تحملان البشر علي أجنحتها ويحملها البشر في صدورهم. وبحكم الميلاد والنشأة استطاع أن يهضم التراث القبطي دينًا وحضارةً وفنًا وقيمًا، ثم في سنوات النضج ثم مع انتشار الإسلام وإحياء تراثه منذ ربع قرن أو ما يزيد تعرف علي الإسلام دينًا واجتهادًا وربما فقهًا ونصوصًا من خلال القراءة والحوار والمناقشة وأخيرًا المعايشة، وأنه استطاع أن يدرك أصوله وخصائص نهجه الحضاري.
ويذكر عن الأعمدة الثلاثة الأخرى للشخصية المصرية والتي تكونت بحكم الموقع أنها متواجدة في أعماق كل منا، فقد تفاعل وعاش الحقبة الناصرية بأكملها وتصادق علي بعض قيادات فكر “القومية العربية”، ولم يجد تعارضًا بين “الانتماء العربي لمصر” وبين جذورها الفرعونية خلافًا لرأي كثيرين لعل أشهرهم وآخرهم الدكتور لويس عوض. ويضيف الكاتب أن إقامته بمدينة الإسكندرية في سنوات شبابه الأولي، قد أكدت إحساسه بأهمية انتماء مصر، جغرافيًا وتاريخيًا، إلي مجموعة حضارات حوض البحر الأبيض المتوسط، وهذا هو العامود السادس، ولأن بشرته سمراء ولأنه تصادق مع سودانيين منذ أوائل الخمسينات أيام دراسته بإنجلترا فإنه تحمس للعامود السابع والأخير وهو انتماء مصر إلي أفريقيا. وعلي الرغم من الذاتية الشديدة والانطباعات الشخصية التي تغلب علي كلمات وأفكار الكاتب، إلا أن كل من يقرأه سيشعر به ويجد فيه ذاته؛ لأننا كمصريين لنا جميع هذه المكونات السبعة في وجداننا. ومن الطبيعي أن يفضل بعضنا الانتماء الفرعوني بينما البعض الآخر يراه انتماءً لعصور وثنية وقد ولت وانتهت إلي غير رجعة، وأن البدائل المقبولة هي العروبة والإسلام.
ولذلك، فإنه رغم وجود هذه التركيبة، في كل منا، فإنها انتماءات أو أعمدة ليست متساوية في الطول والمتانة، وأن اهتمام وتقدير كل منا لهذه الأعمدة داخل نفسه أو في وجدان الشعب المصري كله يختلف من إنسان لآخر حسب التركيبة الإنسانية والذاتية. بل لعلها تختلف في الفرد والإنسان الواحد مع الزمن، ومن حقبة لأخري.
ففي فترة الشباب يكون الحماس للوطن أو الدين أو القومية العربية وحدها دون غيرها، ومن ثم يكون الإنسان أحادي الانتماء فلديه الأشياء إما بيضاء أو سوداء، ومع تقدم السن والخبرة في الحياة وتراكم الشعر الأبيض تنمو انتماءات أخري، ويري الإنسان كثيرًا من الأمور رمادية، وبدرجات متدرجة بين الأبيض والأسود.
علي أن الأمر لا يقتصر علي هذه الانتماءات السبعة أو غيرها لشخصية المواطن المصري؛ لأننا في النهاية لسنا قوالب أو أنماط متكررة رغم هذه القاعدة والأرضية المشتركة لأمزجة من ينتمون إلي وطن واحد. فلكل منا ذاتيته وخصوصيته وتفرده، وهذا ما يوضحه الكاتب في الفصل الأخير من الكتاب الذي استعرض فيه الانتماءات الشخصية التي تتراكم عادة للفرد، والتي تبدأ مع الأسرة ثم الحي أو القرية ثم المدرسة، فالمهنة فالارتباط بالعمل، فضلا عن الانتماء الديني والأيديولوجي وكيف أن لعبة الحياة هي حسن توظيف كل منا لما لديه من انتماءات.