وفاة صديق قديم لا يعني فقط انهيار ركن فى حياتك الماضية؛ بل انهيار جزء من المستقبل أيضًا، و فاجعة الفقد تكبر وتزيد إذا كان هذا الصديق صديق الطفولة.. ف مرحلة الطفولة حين كانت القلوب نقية صافية، نصاحب من يختاره القدر لنا، ليجلس بجوارنا فنصبح أصدقاء حتى آخر العمر، ليس بإرادتنا ولكن باختيار القدر ثم بالرضى التام.
في طفولتنا لا نختار نظيرًا مكافئا لنا بالفقر أو الغني ولا نفضل أحدهما على الآخر بالطول أو بالقصر، باللون أو بالذكاء لكننا نتقارب ونتمايز بالمحبة وب الاهتمام المشترك .. لذلك كنا أطفالا قلوبنا مفتوحة لكل من يطرقها، لا تحكمنا حكمة الكبار ولا خبرتهم ولا مكرهم وحسن تدبيرهم.
وفاة صديق الطفولة تعني أن أيام البراءة قد ولت وبدأت معها أجراس تدق من بعيد لتخبرنا أننا تجاوزنا مرحلتي الطفولة والشباب، وأن الموت بدأ يخطف أحد أصدقاء الشلة من وسطنا.. وأن ما بقي من العمر أقل مما مضى.
أصعب شيء في فراق صديق الطفولة هو انهيار خططكم معًا، خطط الفسح المؤجلة لحين اكتمال تعليم الأبناء، خطط لحظات السعادة المؤجلة لحين إتمام مهام الحياة التي لا تنتهي، خطط وأحلام استناد الصديق إلى صديقه.
فلماذا نؤجل أحلامنا؟!
كُنت تتمنى أن يُكَمِل صديقك جميله، وأن يقف بجانبك كتفه في كتفك ويزف إليك مولودك البكري فيكون أول المهنئين، كما كان أول من وضع نقودًا فى يد المولود حين جاء إلى الدنيا.
وطالما كان معك فى اختيار الملابس التي ارتديتها والكلية التي تخرجت منها.. والطريق الذي سلكته.. والصعاب التي مررت عليها، فلا تتوقع أن يتركك فى المستقبل الذي تسعد فيه.. والمعنى أنه كان معك في لحظات التعب ورمي البذور فكنت تتوقع أن يكون معك فى مرحلة جني الثمار .. ولكنها إرادة الله التي تسري علينا وعلى الكون كله، ليس لنا فيها من اختيار إلا اختيار الرضا بقضائه سبحانه.
و الصداقة هي نوع من أنواع المحبة، تختلف عن محبة الأب والأم وتختلف عن محبة الأبناء وتختلف عن محبة الزوجة.. لكنها تظل نوعًا من أنواع الحب.
الرسول “صلى الله عليه وسلم” كان يدعو لأصحابه الذين استشهدوا بجواره في غزواته، يذهب لرؤيتهم في البقيع ويجلس معهم ويطيل الجلوس، يدعو لهم ويترحم عليهم.
الرسول كان يكرم صديقة زوجته أم المؤمنين خديجة التي توفيت، وكان إذا أتي بشيء يقول: “اذهبوا به إلي فلانة؛ فإنها كانت صديقة خديجة، اذهبوا به إلي بيت فلانة؛ فإنها كانت تحب خديجة”.
الحياة تعطي وتمنع وتمنح وتأخذ وتفرق وتقرب.. وفيها مقاربات ومفارقات غريبة لا نعرف تفسيرها مهما حاولنا، يعتبرها البعض إشارات ويعتبرها البعض الآخر من قبيل المصادفات والطرائف ولطائف الكلام والحكايات.
والأمثلة كثيرة تاريخيًا ودينيًا.. هناك كُتاب كتبوا وتوقعوا نهاياتهم في رواياتهم أو في أحاديثهم الصحفية، وفنانون تنبؤا بموتهم.. ومشهورون ماتوا في نفس اليوم الذي ولدوا فيه.
وفي الشهر الماضي.. العالم كان يحتفل باليوم العالمي للصداقة في يوم 3 أغسطس، وقبل منتصف الشهر توفي صديق طفولتي.. وفاة قد كسرت القلب وألحقت بالنفس ألمًا كبيرًا.
وأجدني قد أمسكت القلم وبدأت الكتابة، وأخذ القلم يجري والدموع تجري، وإذ بي أحذف اسم الصديق من المقال لكي أحوله إلى مشاعر عن الصداقة والصديق والمفارقين؟! وأترحم عليه وأدعو الجميع بالترحم عليه كواجب أخلاقي قبل أن يكون واجبًا للكتابة؟!.. ويتحول الخاص إلى عام.. ألم يكن حزن الشعراء ونحيبهم خاصًا بهم، وتحولت أبياتهم إلى ألسنة العامة عبر التاريخ .. فرحمة الله على كل صديق فارق الحياة وترك صديقه.