كانت المرأة العربية المسلمة ومنذ القدم ترزح تحت وطأة قدم العقلية الذكورية التي سيطرت وتسيطر عليها، باعتبارها كائنًا ضعيفًا؛ فهي في مفهوم هذه العقلية المستبدة ناقصة عقل ودين. من هنا تمامًا، تنطلق مأساة هذه المرأة المسكينة التي سكنت لاوعي هذه العقلية المنغلقة، والمستمدة سيطرتها من سلطتيها الدينية والسياسية، سكنت في اللاوعي الذكوري بهاتين الصفتين الأساسيتين: نقصان العقل ونقصان الدين.
وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار المعنى الحقيقي لهاتين الصفتين؛ فإنّنا سندرك مباشرة مدى خطورة هذا الحكم الجائر الصادر في حقّها ظلمًا، فهو بالأساس يسلبها أهم ما يميز الإنسان، وهو العقل الذي يفكّر من خلاله والدين الذي يمنحه السند الوجودي ليكون.
بهذا الحكم، ضربت المرأة العربية المسلمة في الصميم، لتظل حبيسة سجن اسمه الجسد الذي يمنح الذكر المتعة والخلف، وحبيسة دور بائس يتمثل في خدمته.
ولأن المرأة ليست كذلك حتى وإن كانت أميّة، فإنها قاومت استبداد تلك العقلية الدكتاتورية التي حرمتها من أهم معاني الوجود المتمثل في الحرّيّة، قاومته بالحيلة.
فكانت شهرزاد من النساء اللائي خلّد التاريخ حيلتها، لتقاوم السلطة وحدّ السيف في آن، ولم يكن أمامها من حيلة إلاّ أحبولة السرد والحكاية المشوّقة، والتي سلبت عقل شهريار/ الذكر والسلطان فأنقذت حياتها، وسجلت في التاريخ اسمها بأحرف غليظة، لتؤكد للعالم بأسره أنّها ذات عقل وحكمة.
ويزخر تاريخ العرب المسلمين بأسماء نساء فنّدن صحّة ذلك الحكم الجائر بأن شاركن الخلفاء والسلاطين السلطة، حتى وإن كان ذلك في الكواليس ومن وراء حجاب.
كما خلّد التاريخ أسماء نساء كثيرات كذّبن تلك المقولة بقولهن الشعر، مثل الخنساء وولاّدة بنت المستكفي وغيرهن، كما تسجل كتب عديدة تراثية مثل الأغاني وغيرها حكايات وطرائف شتى تروي ذكاء النساء، بل دهاءهن غالبًا في التعامل مع السلطة الذكورية التي لا يعنيها من المرأة إلاّ جسدها.
أثناء الفترات التي عاشت خلالها البلدان العربية المسلمة تحت وطأة الاستعمار الغربي، أكدت المرأة في أغلب البلاد العربية قدرتها الفكرية العالية وإرادتها الفولاذية للمساهمة في النضال من أجل تحرير بلادها؛ ولعلنا هنا لا نستطيع أن نتجاوز ذكر المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد أو الفلسطينية دلال المغربي..
ولما نالت هذه البلدان استقلالها هبّت على وضعية المرأة رياح مواتية وبقوى متفاوتة من بلد إلى آخر، لتساعد المرأة على إثبات وجودها والتأكيد على أنها ليست كما اتهمت ناقصة عقل ودين، وتمثلت تلك الرياح في وجود زعماء مختلفين من مفكرين وساسة مثل الطاهر الحداد والحبيب بورقيبة في تونس وقاسم أمين وجمال عبد الناصر في مصر وعبد الكريم قاسم في العراق وغيرهم ممن آمنوا بأنه لا تطور ولا تقدم للمجتمعات العربية المسلمة إلا بتعليم المرأة وبعث الحياة في نصف المجتمع الذي شلّته العادات البائسة والتقاليد البالية بتهمة باطلة، وهي أنّها ناقصة عقل ودين.
خلال النصف الثاني من القرن العشرين، نستطيع أن نقول إن المرأة العربية المسلمة التي تحرّرت من عقالها، فغادرت سجنها إلى رحاب المدارس والكلّيات، لتجنّح بعدها وتطير محلقة في سماء الحرية والعمل والإبداع في شتى المجالات، وإن كان ذلك بنسب متفاوتة بين بلاد وأخرى وبين منطقة وأخرى.
هذه الفترة التي يمكن أن نعتبرها الآن فترة ذهبية في تاريخ تحرّر هذه المرأة منحت لهذا العالم العربي المسلم نجمات في شتى المجالات، ونكتفي بذكر أم كلثوم وفيروز في الغناء، ومي زيادة ونازك الملائكة وفدوى طوقان في الشعر، وغادة السمان وبنت الشاطئ في الرواية والبحث، وفاتن حمامة وسعاد حسني في التمثيل، وغيرهن كثيرات، مثل أوّل طبيبة عربية، وهي التونسية توحيده بالشيخ…
وفي الوقت الذي اعتقدنا فيه، أن المرأة بدأت تخطو بثبات في طريق تحرّرها ليس فقط في تونس والمغرب وسوريا ولبنان ومصر والعراق، بل وحتى في بلدان الخليج العربي الذي لحق متأخرًا مقارنة ببقية البلاد العربية المسلمة، تمامًا أثناء هذه اللحظات التي بدأ خلالها يعلو صوت المرأة على الركح وعبر الشاشات ومن خلال المصدح والكتب والمجلات والصحف، في تمام هذه اللحظات هبّت “عواصف” ثورات الربيع العربي عاتية على مجتمعاتنا، فاختلّت الموازين وتزعزع كل شيء، وإذا بالمرأة العربية تتراجع إلى الوراء، وتخسر كل المسافة التي ربحتها خلال ما يفوق نصف القرن، لتجد نفسها في المواجهة انطلاقًا من وضعية أسوأ من الصفر وفي ظروف اجتماعية وثقافية وأخلاقية مهتزة من ناحية لكن بإمكانيات أكثر فاعلية وقوّة والمتمثلة في أنها متعلّمة ومثقفة إلى حدّ ما.
وهنا يطرح السؤال الأهمّ كيف لهذه المرأة المتعلمة والمثقفة، والتي تذوّقت طعم الحريّة أن تقاوم هذا المدّ من التخلف والرجعية الذي هجم متنكرًا تحت أقنعة الديمقراطية والدين، ليصنع الفوضى والحروب ويستهدفها هي تحديدًا وبنفس التهمة الجائرة: “نقصان العقل والدين”؟!
إنّ المرأة الكاتبة، الواعية، المثقفة، الوطنية وحدها القادرة على خوض مغامرة الكتابة والإبداع الشاقة والخطيرة، لتواصل مسيرة التحرّر التي انطلقت بعد استقلال البلدان العربية المسلمة من الاستعمار الجغرافي بفضل نضال الرجل بالسلاح والمقاومة. والآن بات دور المرأة هذه أهمّ وأخطر بما أنّ الاستعمار الحديث للبلدان العربية المسلمة جاء عن طريق الثورة الرقمية التي جعلت أخطر الأفكار تدخل إلى بيت أي مواطن، وربّما بل الأكيد بمساعدته لتفتكّ منه ابنه أو ابنته وتجنده أو تجنّدها ضدّ عائلتها، وهنا تجسدت الحرب العالمية الثالثة في شكلها الإلكتروني الاتصالي الذي حول العالم إلى قرية حقيقية يقع التحكّم في أحداثها عن بعد.
هنا تحديدًا، يكمن دور المرأة عمومًا لحماية أبنائها من الاستعمار الفكري الذي يحرّض أفراد العائلة الواحدة ضد بعضهم البعض بإحداث الفرقة الدينية أو الأيديولوجية أو العرقية أو غيرها من أسباب الفُرقة والفتنة التي دمّرت شعوبنا.
أما دور الكاتبة المثقفة، فيتمثل في توعية تلك الأم ّالتي ليس لها من الثقافة والوعي لتعي خفايا الأحداث، وفي توعية جيل من الشباب الذي خسر تعليمه أو ثقته أو مكانته في مجتمعاتنا التي ترزح تحت سياط الفقر والبطالة، وهي من أغنى البلدان بثرواتها المنهوبة. ذلك هو دور المرأة المثقفة والكاتبة وعلى خطورته التي تصل إلى حد التهديد بالقتل، فإنّ هذه الأخيرة لم ولن تتراجع عن أداء دورها هذا لإنقاذ وطنها.
المرأة الكاتبة والسلطة الدينية والسياسية
مما لا شك ولا جدال فيه، أنّ علاقة العداء بين المرأة المبدعة وهاتين السلطتين قديمة قدم التاريخ. فالعقلية الذكورية المستبدة لم تسمح للمرأة المتهمة بأنّها ناقصة عقل ودين بالمشاركة في مجالها.
ولأن صورة المرأة الكاتبة المبدعة في العقلية الذكورية هي صورة امرأة متشبهة بالرجل، باعتبارها خرجت عن القطيع النسوي بما أنّها تجرأت ومارست الفعل الذي لا يجرؤ عليه سوى الرجال، وهو فعل الإبداع الذي يتطلب عقلًا وفكرًا.
هذه الصورة تخيف العقلية الذكورية وترعبها لذلك تسارع بتهميش مشروعها الإبداعي والفكري واتهامها بأن رجلًا يقف وراء إبداعها إن كان متميزًا أو استغلالها والاستهزاء منها، إن كان مشروعها الإبداعي هزيلًا.
أما الحقيقة، فتتمثل في أنّ صورة المرأة الكاتبة الواعية والمبدعة تخيف السلطة السياسية، لذلك ظلّت المناصب السياسية حكرًا على الرجال في البلاد العربية وحتى إن ساهمت نساء قليلات، فذلك بفضل العلاقات الشخصية وليس بفضل الجدارة.
وعلى الرغم من مساهمة العديد من النساء في تونس ومصر وسوريا وليبيا في بداية ثورات الربيع العربي – وقد اعتقدن في جديتها – إلاّ أنّهن عند نيل المناصب لم نشاهد عددًا كبيرًا من هؤلاء النسوة على كراسي السلطة ! وهنا نتأكد من الحصار الذي تضربه العقلية الذكورية حول عقل المرأة؛ لأنها تهابه وتهاب قدراته، لأنها تدرك مكامن قوّته ومنها يقع غلق الأبواب أمام طموحها السياسي.
أمّا السلطة الدينية، فهي موصدة تمامًا في وجه المرأة المفكرة تحديدًا، والتي تبحث في المسألة الدينية في كل البلاد المسلمة دون استثناء ولا أدل على ذلك من إهدار دم كل من تجرأت على البحث في مسائل خلافية دينية، وأعود هنا لذكر التونسية ألفة يوسف التي نالت دكتوراه دولة حول موضوع “تعدد المعاني في القرآن”، والتي قدمت مجموعة كبيرة من الكتب في مسائل تخص الحجاب والميراث وعديد القضايا التي لم تحسم بعد. كما أذكر العراقية وفاء سلطان التي ناقشت وتناقش تلك المسائل الخلافية في الإسلام، والتي أهدر دمها هي الأخرى. الأمثلة كثيرة، حيث ترفض فيها السلطة الدينية دخول المرأة المفكرة ميدان البحث الديني، باعتبارها ناقصة عقل ودين.
ختامًا
بعد كل الجهود التي قامت بها المرأة العربية المسلمة، وبعد كل ما حققته من منجزات على مستوى القوانين وعلى مستوى الحضور الثقافي والإبداعي في كثير من البلاد العربية المسلمة، غير أنّ إعصار الربيع الأسود هبّ على هذه البلاد، فدمرها على جميع المستويات وأعادها إلى عصور ما قبل الاستقلال. وكانت وضعية المرأة هي الأكثر تضررًا، حيث تراجع حضورها الاجتماعي، وأعيدت إلى سجونها المختلفة، ومنها سجن الحجاب وسجن التقاليد وسجن الجهل والأمية.
وهنا يتوجّب على المرأة الكاتبة المثقفة الواعية أن تضاعف من جهود نضالها، لتوعية هذه المرأة العربية المسلمة التي أعادوها إلى دور الضحية المعذّبة والمعنّفة، لأن المرأة الكاتبة وحدها تمثل حزام أمان لأوطاننا المحتلة بشكل أو بآخر من غزاة افتراضين وآخرين خونة.
النساء في سطور القانون والشرائج أن الحداثة الرقمية تحولت إلى سمة للجانب الأهم والأكثر محورية وحيوية في حياتنا اليوم، رغم وجود عدم تسليم كامل بذلك، حيث لا تزال هناك مواقع للإنتاج الفني والإبداعي تقع خارج هذا التوصيف لأسباب كثيرة تتصل غالبًا بالتفاوت بين المجتمعات من حيث التطور والقدرة على امتلاك التكنولوجيا، كما تتصل بموقف من هذا المنظور الثقافي الجديد عند بعض منتجي الثقافة والإبداع داخل المجتمعات المتقدمة نفسها.
أن السمة المميزة للدراسات النسوية الأدبية ما بعد الاستعمارية هي التزامها بتحليل التاريخ والخصوصية الاجتماعية، وهدفها ربط تحليلات النصوص الأدبية بالعلاقات الاجتماعية الأوسع، وشملت مجالات العمل الرئيسة في الدراسات الأدبية ما بعد الاستعمارية الطرق التي تعمل بها السلطة من خلال اللغة والثقافة الأدبية لتشكيل المعاني والقيم والذاتيات والهويات، وسعى هذا العمل الأفضل إلى الحفاظ على علاقات القوة بين الجندر، والطبقة، والعرق في الإطار، ورؤيتها كما هي دائمًا مرتبطة بشكل متكامل، وقد انتقل جزء من النقد الأدبي والثقافي النسوي الأكثر ابتكارًا في ما بعد الاستعمار في اتجاه ما يمكن تسميته بالتاريخ الثقافي، وهذا ينطوي على قراءة النصوص الخيالية جنبًا إلى جنب مع النصوص والأشكال والممارسات الثقافية الأخرى فيما يتعلق بالتطورات الاجتماعية والاقتصادية الأوسع.
دكتور القانون العام ومحكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان