في الأعوام الأخيرة، اعترف عدد من الوثائق الدولية الموقعة برعاية كل من الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية بالآثار السلبية للفساد على حماية حقوق الإنسان وعلى التنمية. وعلاوة على ذلك، فإن هيئات المعاهدات والإجراءات الخاصة لنظام الأمم المتحدة لحقوق الإنسان علقت، عند بحثها لامتثال الدول للقانون الدولي، على عدم قدرة الدول على الامتثال لالتزاماتها نتيجة للفساد.
وحقوق الإنسان غير قابلة للتجزئة ومترابطة، وعواقب الحكم الفاسد متعددة وتمس جميع حقوق الإنسان – المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية – وكذلك الحق في التنمية. والفساد يؤدي إلى انتهاك التزام الحكومة في مجال حقوق الإنسان ب”اتخاذ التدابير اللازمة… بأقصى ما تتيحه مواردها المتوافرة، من أجل الإعمال التدريجي التام للحقوق المعترف بها في العهد [الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية]”. والإدارة الفاسدة للموارد العامة تلحق الضرر بقدرة الحكومة على تقديم مجموعة من الخدمات، بما فيها الخدمات الصحية والتعليمية وخدمات الرعاية، الضرورية لإعمال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. كما أن تفشي الفساد يُحدث تمييزاً في الحصول على الخدمات العامة لصالح القادرين على التأثير في السلطات لجعلها تتصرف على نحو يحقق مصلحتهم الشخصية، بوسائل من بينها تقديم الرشاوى. ويعاني المحرومون اقتصادياً وسياسياً على نحو غير متناسب من عواقب الفساد لأنهم يعتمدون بشكل خاص على السلع العامة.
والفساد قد يؤثر أيضاً على التمتع بالحقوق المدنية والسياسية. وقد يُضعف الفساد المؤسسات الديمقراطية في كل من الديمقراطيات الجديدة والديمقراطيات العريقة. وعندما يتفشى الفساد، يتخذ شاغلو المناصب العامة قراراتهم دون مراعاة لمصالح المجتمع. ونتيجة لذلك، يُلحق الفساد الضرر بمشروعية النظام الديمقراطي في أعين الجماهير ويفضي إلى فقدان الدعم الجماهيري للمؤسسات الديمقراطية. وتفتر همة الناس عن ممارسة حقوقهم المدنية والسياسية وعن المطالبة باحترام هذه الحقوق. وحالات تزوير الانتخابات والفساد الانتخابي في تمويل الأحزاب السياسية هي ممارسات فاسدة أخرى أكثر مباشرة فيما يتعلق بالمساس بالتمتع بالحقوق المدنية والسياسية.
وفي البلدان التي يتفشى فيها الفساد في نظام سيادة القانون، يعوق القضاة والمحامون والمدعون العامون وضباط الشرطة والمحققون ومراجعو الحسابات الفاسدون تنفيذ الأطر القانونية القائمة والجهود المبذولة لإصلاحها. والممارسات من هذا القبيل تخل بالحق في المساواة أمام القانون والحق في محاكمة عادلة، وتقوض بشكل خاص إمكانية وصول الجماعات المحرومة إلى العدالة، لأنها غير قادرة على تقديم رشاوى. والأمر المهم هو أن الفساد في نظام سيادة القانون يضعف هياكل المساءلة ذاتها، وهي الهياكل المسؤولة عن حماية حقوق الإنسان، ويسهم في وجود ثقافة إفلات من العقاب، بالنظر إلى أنه لا تجري المعاقبة على الإجراءات غير القانونية ولا يجري التمسك بالقوانين دائماً.
كيف يمكن أن تساعد مبادئ حقوق الإنسان في مكافحة الفساد؟
مبادئ ومؤسسات حقوق الإنسان عنصران جوهريان من عناصر الاستراتيجيات الناجحة والمستدامة لمكافحة الفساد. أولاً، من المرجح أن تنجح جهود مكافحة الفساد عندما تتناول الفساد باعتباره مشكلة نظام وليس مشكلة أفراد. والمواجهة الشاملة للفساد تتضمن مؤسسات فعالة، وقوانين ملائمة، وإصلاحات لتحقيق الحكم السديد، وكذلك إشراك جميع الجهات المعنية صاحبة المصلحة في العمل داخل الحكومة وخارجها. ومن ثم، فإن اعتماد أطر قانونية أو لجان لمكافحة الفساد قد لا يكون فعالاً في حالة عدم وجود مجتمع مدني قوي وملتزم أو ثقافة نزاهة في مؤسسات الدولة. وبالمثل، فإن النشاط المدني لمكافحة الفساد تلزمه المساعدة من إطار قانوني قوي ونظام سياسي منفتح لتحقيق أهدافه.
ثانياً، ووفقاً لما ذُكر أعلاه، فإن المعركة ضد الفساد، شأنها في ذلك شأن المشاريع المتعلقة بحقوق الإنسان، كثيراً ما تكون عملية طويلة الأجل تتطلب تغييرات مجتمعية عميقة، تشمل مؤسسات البلد وقوانينه وثقافته. وبالتالي، يمكن أن تستفيد استراتيجية فعالة لمكافحة الفساد من المبادئ الرئيسية لحقوق الإنسان وأن تستنير بها. والعناصر مثل القضاء المستقل، وحرية الصحافة، وحرية التعبير، والشفافية في النظام السياسي، والمساءلة ضرورية لاستراتيجية ناجحة لمكافحة الفساد.
ويلزم تحديد دور وخصائص المؤسسات التي أسهمت على نحو فعال في جهود مكافحة الفساد. وعلاوة على ذلك، فإن دور القضاء وأمناء المظالم والمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان في التصدي للفساد وإمكانية تعاونهم مع الوكالات الوطنية والدولية لمكافحة الفساد جديران بالبحث أيضاً, وجهود القضاء ونظام سيادة القانون بوجه عام في الدعوة إلى اعتماد القوانين ذات الصلة وكذلك في تنفيذ الإطار القانوني القائم جهود ذات صلة أيضاً بهذا النقاش.
والشفافية والمساءلة مبدآن من المبادئ الرئيسية لنهج للتنمية يرتكز على حقوق الإنسان، وهما أيضاً عنصر جوهري لنجاح استراتيجيات مكافحة الفساد. ومن التدابير التي يمكنها تعزيز الشفافية والمساءلة والإسهام في التدابير المستدامة لمكافحة الفساد اعتماد قوانين تضمن وصول الجماهير إلى المعلومات المتعلقة بالعمليات الحكومية، وقرارات وسياسات وأيضاً إصلاحات مؤسسية تعزز الشفافية والمساءلة وذلك، على سبيل المثال، من خلال إجراء إصلاح في الإجراءات التشغيلية وعمليات صنع القرارات لدى المؤسسات، بما فيها المؤسسات المنتخبة والمؤسسات المسؤولة عن تقديم الخدمات.
وللمجتمع المدني الملتزم ووسائط الإعلام التي تثمّن المساءلة والشفافية وتطلبهما أهمية حيوية في التصدي للفساد. ويمكن استخلاص دروس من خبرة حركات حقوق الإنسان في إذكاء وعي المجتمع المدني بعواقب الفساد الضارة وفي إقامة التحالفات مع مؤسسات الدول ومع القطاع الخاص دعماً لجهود مكافحة الفساد. ويستطيع كل من المجتمع المدني والقطاع الخاص الاضطلاع بدور حاسم في إجراء الإصلاح المؤسسي اللازم لتعزيز الشفافية والمساءلة.
آليات حقوق
آليات حقوق الإنسان في الأمم المتحدة يتزايد وعيها على نحو مطرد بالتأثير السلبي للفساد على التمتع بحقوق الإنسان وبالتالي بأهمية التدابير الفعالة لمكافحة الفساد. وقد تناول مجلس حقوق الإنسان ومقرروه الخاصون وآليته للاستعراض الدوري الشامل، وكذلك هيئات رصد معاهدات حقوق الإنسان (لاسيما لجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ولجنة حقوق الطفل)، قضايا الفساد وحقوق الإنسان في مناسبات عديدة.
وفي عام 2003، عينت اللجنة الفرعية السابقة المعنية بتعزيز حقوق الإنسان وحمايتها مقرراً خاصاً مهمته إعداد دراسة شاملة عن الفساد وتأثيره على التمتع التام بحقوق الإنسان، وبصفة خاصة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وانتهت هذه الولاية في عام 2006 عندما استُعيض عن اللجنة الفرعية باللجنة الاستشارية. وفي عام 2004، قامت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، بناء على طلب لجنة حقوق الإنسان، التي كانت موجودة آنذاك، بتنظيم حلقة دراسية، بالاشتراك مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، عن ممارسات الحكم السديد من أجل تعزيز حقوق الإنسان، بما فيها مكافحة الفساد، وذلك في سيول بجمهورية كوريا (التقرير وارد في الوثيقة E/CN.4/2005/97). وبعد ذلك، نشرت المفوضية، في عام 2007، كتيباً عن ممارسات الحكم السديد من أجل حماية حقوق الإنسان (HR/PUB/07/4). وفي عام 2006، نظمت المفوضية مؤتمراً بشأن تدابير مكافحة الفساد وإرساء الحكم السديد وحقوق الإنسان وذلك في وارسو ببولندا (التقرير وارد في الوثيقة A/HRC/4/71). وفي إطار متابعة هذا المؤتمر، تقوم المفوضية، بالاشتراك مع مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، بإعداد دليل للممارسين عن حقوق الإنسان ومكافحة الفساد.
واصل مجلس حقوق الإنسان تعزيز العمل بشأن حقوق الإنسان ومكافحة الفساد. وفي عام 2011، شدد المجلس على أنه ينبغي للدول أن تشجع البيئات الداعمة والمواتية لمنع انتهاكات حقوق الإنسان بوسائل من بينها محاربة الفساد (القرار 18/13). وبالإضافة إلى ذلك، نظر المجلس في مسألة التأثير السلبي لعدم إعادة الأموال المتأتية من مصدر غير مشروع إلى بلدانها الأصلية على التمتع بحقوق الإنسان (القرارات 17/23, و19/38 و22/12)، بما في ذلك دراسة أعدتها المفوضة السامية لحقوق الإنسان بشأن الموضوع (التقرير A/HRC/19/42). وينظر في المسألة الآن الخبير المستقل المعني بآثار الديون الخارجية للدول وما يتصل بها من التزامات مالية دولية أخرى في التمتع الكامل بجميع حقوق الإنسان، وخاصة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وفي عام 2012، أدلى المغرب ببيان أقاليمي مشترك بشأن الفساد وحقوق الإنسان أمام الدورة العشرين لمجلس حقوق الإنسان نيابة عن 134 دولة. ودعا البيان إلى تعميق التفكير في الصلة الوثيقة بين حقوق الإنسان وتدابير مكافحة الفساد وحث حركات مكافحة الفساد وحركات حقوق الإنسان على العمل معاً. وبعد ذلك، عقد مجلس حقوق الإنسان، في آذار/مارس 2013، حلقة نقاش بشأن آثار الفساد السلبية على التمتع بحقوق الإنسان (التقرير A/HRC/23/26).
في عام 2013، طلب مجلس حقوق الإنسان إلى لجنة الخبراء الاستشارية التابعة له أن تقدم إلى المجلس في دورته السادسة والعشرين في حزيران/يونيه 2014 تقريراً قائماً على البحث بشأن مسألة آثار الفساد السلبية على التمتع بحقوق الإنسان، وأن تقدم توصيات بشأن الكيفية التي ينبغي أن ينظر بها المجلس وهيئاته الفرعية في هذه المسألة (القرار 23/9). وقدمت اللجنة الاستشارية تقريرها النهائي بشأن مسألة آثار الفساد السلبية على التمتع بحقوق الإنسان في عام 2015 (A/HRC/28/73).
ثلاث رسائل رئيسية من مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان:
الفساد عقبة كأداء تعترض سبيل إعمال جميع حقوق الإنسان – المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية – وكذلك الحق في التنمية.
المبادئ الأساسية في مجال حقوق الإنسان – الشفافية والمساءلة وعدم التمييز والمشاركة الهادفة – هي، عند التمسك بها وتنفيذها، أنجع الوسائل لمكافحة الفساد.
هناك حاجة ملحة إلى زيادة التآزر بين الجهود الحكومية الدولية الرامية إلى تنفيذ اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان. ويتطلب هذا تعزيز اتساق السياسات والتعاون بين العمليات الحكومية الدولية في فيينا وجنيف ونيويورك، ومكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ومفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان والمجتمع المدني.