سابقا كانت قدوة الأفراد التلقائية الوالدان او الأخ الكبير حيث كانوا هم المثاليين للعائلة للاحتذاء بهم ، على الرغم من ان شيمة الوالدين قديما، وتحديدا الاب، كانت الحزم والصرامة والشدة والأمر والنهي، وشيمة الابناء السمع والطاعة فلا حوار بينهم.
بدأ المجتمع يتغير ويتوجه صوب منهج العقلانية والتفاهم والحوار لبناء جيل اكثر وعيا واكثر حرية حيث ووصلنا الى ما نحن عليه الآن من جيل اليوم الذي تربى تحت رعاية والدين متعلمين يؤمنان بأن الحرية باتت ضرورة وبأن الحوار منهج ومسار للحياة فهل تغيرت النظرة تجاه القدوة؟ وهل ما زال الوالدان يشكلان الثنائي المثالي الناجح بالنسبة للأبناء؟
تبين عالية وسام ان الزمن لا يعود إلى الوراء، فجيل اليوم مدلع يطلب ويأمر وينهى، بينما كان جيل الامس يلبي ويسمع ويطيع، حتى ان كان ذلك رغم أنفه.
وعلى الرغم مما يتمتع به جيل اليوم، فالوالدان محط انتقاد دائم من ابنائهما الذين لا يعجبهم العجب، رغم ان هم الوالدين هو اسعادهم بشتى الطرق وتلبية رغباتهم ومتطلباتهم كافة، الا ان الابناء في تذمر دائم وسخط مستمر، والسبب هو الدلع والسماح لهم بتجاوز الخطوط الحمراء باسم الحرية.
ان جيل اليوم لا يضع اهله قدوة له كما كان بالسابق كما انه مهما بلغ علمهم وثقافتهم ووعيهم، فهو يراهم من زمن قديم، حتى ان كانوا حريصين على تلبية جميع رغباته وعلى منحه الحرية.
لا يلتزم كذلك أبناء كلا الجيلين حتى بالقواعد اللغوية، فالرسائل القصيرة التي يتبادلها أبناء هذين الجيلين لا تتبع القواعد النحوية أو الإملائية المعروفة، بل تتبع أنماط لغوية اختزالية ورمزية وضعها أبناء هذين الجيلين أنفسهم، استقرت بمرور الوقت.
عمَّق كل هذا من الفجوة العمرية بين الأجيال، بسبب انهيار لغة التواصل بين جيلي الآباء والأبناء، والتباين الكبير في أنواع الموسيقى وأنماط التفكير والسلوك بين الطرفين، وهو ما انعكس بنهاية المطاف في التنافر الواضح في الآراء السياسية بينهما، وهو ما تبدَّى أكثر ما تبدى بعد انفجار ثورات الربيع العربي.
فالظاهرة الأبرز التي تناولها العمل، ألا وهي ظاهرة انتشار الإلحاد تحت ضغط واقع من حالة ما بعد الربيع العربي، نلاحظ أنها ترتبط بشكل رئيسي بهذا الجيل من ذلك الوسط الاجتماعي، وفي هذا الظرف التاريخي تحديدًا. أدت تحولات المجتمع ما بعد الصناعي أو مجتمع المعلومات التي أعادت تشكيل البنى الاجتماعية في عالمنا الراهن نحو مجتمعات شبكية سائلة لا بنيوية ومتعددة المراكز، إلى إعادة تشكيل موازية للتنظيمات الأيديولوجية التاريخية في المنطقة التيارات السياسية والدينية والأحزاب والتشكيلات اليسارية القديمة، وإلى فتح الأبواب أمام عصر جديد، ألا وهو عصر ما بعد الأيديولوجيا.
بعيدًا وحسب الانقسامات الأفقية على المستوى العمري الماثلة في الفجوة بين الأجيال، فنحن اليوم أمام هوة ممتدة رأسيًّا أيضًا على المستوى الثقافي والاجتماعي، عبر استقطاب فكري وسياسي غير مسبوق، جعل من المجتمع السياسي المصري والعربي جزرًا منعزلة انقطع بينها التواصل والحوار والود.
يجري كل هذا الشقاق السياسي والطائفي وسط حالة من الانقسام الاجتماعي وصلت حد إقامة جدر مادية ماثلة بين السكان على امتداد العمران، على غرار «المنطقة الخضراء» في بغداد والجدار الإسرائيلي الفاصل في الضفة الغربية؛ إلا أنها في البلاد العربية غير المحتلة كمصر صارت عبارة عن جدر خراسانية بين الطبقات الاجتماعية.
صارت المجتمعات المسورة كضواحي «الرحاب» و«مدينتي» وتجمعات الكومباوند المنتشرة في «الشيخ زايد» و«6 أكتوبر» والمقطم، هي النمط السائد للمجتمعات العمرانية الجديدة، ونحن هنا لسنا أمام انفصال في أماكن العيش وحسب، بل حتى في التعليم، حيث يذهب أبناء سكَّان تلك الضواحي وغيرها إلى مدارس أجنبية، تعتمد مناهج ومقررات أجنبية ليس فقط في المواد العلمية وحسب، ولكن حتى في تعليم مادة التاريخ، حيث يُدرس التاريخ الفرنسي أو البريطاني أو الأمريكي في أروقتها عوضًا عن تدريس التاريخ المصري والعربي.
يتحول هذا النمط العمراني بمرور الوقت إلى نمط عالمي، حيث تنوي إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كما هو معروف بناء جدار خراساني على طول الحدود الممتدة بين الولايات المتحدة والمكسيك، على نحو يعيد العالم إلى عصر الإمبراطورية الرومانية التي قام هادريان، أحد أباطرتها، ببناء سور حجري ممتد على طول إنجلترا الحالية للفصل بين سكَّان الإمبراطورية المتحضرين والبرابرة الهمج خارج السور.
بالعودة مرة ثانية إلى منطقتنا العربية، تحول كل تلك الانقسامات الجيلية والسياسية والطائفية والاجتماعية بنهاية المطاف، دون تكوين تيار رئيسي في المجتمعات العربية، حيث صار للجميع سردياته الصغرى، على نحو انهار معه التضامن السياسي والاجتماعي العام الذي كفل لنا في لحظة أخيرة أن نرى مشهد «ميدان التحرير» خلال ثورة 25 يناير؛ المشهد الذي قد لا يعود مجددًا في مجتمعاتنا التي صارت مهددة في مرحلة ما بعد إخفاق الربيع العربي باحتمالات وخيمة ومؤلمة مثل اندلاع ثورات الجياع أو تفجر الحروب الأهلية.
أمر طبيعي ومن سنة هذا الكون أن تتعاقب الأجيال وترث بعضها، لكن الطارئ الآن هو هذا الصراع بين جيلين، لكل مكوناته التربوية والنفسية ومزاجه الثقافي المختلف، وسبب ذلك هو السرعة الفائقة التي تبدلت من خلالها إيقاعات الحياة، فما أُنجز وتم حرقه من المراحل في التطور التكنولوجي على الأقل خلال نصف قرن يعادل التطور الذي استغرق خمسة قرون، وما تطور وتبدل ليس مظاهر الحياة وأساليب التعامل معها، إنه أشبه بالطلاق أو القطيعة بين زمنين.
فلا الثقافة ولا الفنون بكل مجالاتها حافظت على نسبة من المشترك بين جيلين، وكان لا بد لصراع الأجيال أن يحل مكان تعايشها، رغم أن الأجيال على امتداد التاريخ حملت أسماء تحدد أبرز سماتها، ومنها على سبيل المثال: جيل ما بين الحربين في أوروبا، وجيل الغضب الذي ظهر في بريطانيا في خمسينات القرن الماضي، وكان من أبرز رموزه: كولون ويلسون وجون أزبورن، وكذلك جيل ثورة مايو 1968 الذي ظهر في فرنسا، وتمدد إلى العالم كله..
وفي العالم العربي هناك من يطلقون اسم جيل حزيران على من كانوا أطفالاً خلال تلك الفترة القاسية، هكذا كان من السهل العثور على القواسم المشتركة بين أبناء الجيل الواحد، لأنهم يعيشون تحت سقف الزمن ذاته، ويتنفسون المناخات السائدة ذاتها.
إن تعاقب الأجيال ووراثة الخلف لما أنجز السلف كان من نواميس الحياة والطبيعة معاً، لهذا قيل لكل زمان دولة ورجال، لكن التسارع المحموم في التطور والإيقاعات الصاخبة للحياة أحدثت تغييراً شبه جذري في صلة الأجيال ببعضها، وكذلك الصلة بين أبناء الجيل الواحد!
وحين يصبح صراع الأجيال بديلاً لتعايشها وتكاملها فإن الخلل يصيب النسيج الاجتماعي كله، وهذه مناسبة لاستذكار عبارة أصبحت قولاً مأثوراً لمفكر فرنسي قال بمناسبة تسلمه المنصب الذي كان يشغله أستاذه ورحل.. «قد أبدو أطول منه والحقيقة أنني أبدو كذلك لأنه يحملني على كتفيه!!» إن الهوة السحيقة التي تفصل بين الجيل الذي ولد في ثمانينات القرن الماضي وحتي بين جيل 2020 وبين جيل السبعينات المؤسس سياسيا لم تكن محض صدفة وإنما هي هوه صنعتها سياسة منهجية تم اتباعها منذ عهد الرئيس السادات
واستمرت في عهد مبارك [منهج تجريف السياسة] وعلي مدى أربعين عاماً كاملة ومؤلمة من عمر الوطن. شريحة كبيرة من الجيل القديم تتهم الشباب بالفوضوية، وعدم الجد، وإضاعة الوقت والمال، وعدم تقدير الكبير، ناهيك عن عقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، وما إلى ذلك… بينما في المقابل يشكو الشباب من عدم تفهم وضعهم، وعدم سماع مشاكلهم، أو دعم مشاريعهم، ونسيان حاجتهم المادية، والمعنوية، والعاطفية – أيضاً-.
وفي تقديري أن كلا الطرفين مصيب، وأن هناك تقصيراً من الجانبين، ويتمثل تقصير بعض أفراد الجيل الجديد فيما يلي:
لقد أفرزت لنا تلك النعمة التي نتفيأ ظلالها جيلاً هشاً همٌّه تحت قدميه، لا يدري ما هدفه في الحياة، همه تلميع سيارته، وتضييق ثوبه، لا يفارق جوالُه المراوحةَ بين كفِّه وأذنه، تأتيه دررٌ من رسائل الجوال فيبخل بها على والديه، ويزجيها وينثرها لأناس ربما خلو من الأخلاق والآداب. يتأفف من الجلوس مع والده وإخوانه، وإن اجتمع أهله وعشيرته اعتذر أو تخلف أو تسلل لاوذا، يستكثر عليهم يوماً في الشهر أو السنة، ولا يفرط في يوم واحد تغيب شمسه لم يرى الشلة فيه، إن جلس في المنزل تسلَّط على والدتِه وإخوانِه بالصراخِ والضربِ والأوامرِ والنواهي، لا يتحمل من أهله مساءلة أو مناقشة، فضلاً عن التعليق والمداعبة، بينما يرميه جلساؤه بالعظائم والشتائم فيقابل ذلك بابتسامة الرضا والتحمل.
دكتور القانون العام ومحكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان