أن الطبيعة البشرية بلا شك تنعكس على أراء وسلوك الإنسان إنها أقوى من تأثير الأديان. فرغم تعاقب ظهور الأديان وانقسامها وتفرعها، وظهور آلاف المتحدثين باسمها والداعين إلى قيمها، فإن سفك الدماء والعداوات بين البشر لم تتوقف منذ فجر التاريخ)، وبما طبيعة بعض من يسعون لأن يكونوا من الخبراء
وبما إن من طباع الحكم عند الإنسان العربي كما يراها ابن خلدون التفرد في الحكم فينفرد بالحكم شخص واحد، يعتمد على عصبته أولا، فإذا استقر له الحكم عاد عليهم بالإقصاء، إذ ليس يرضى حينها بالشركاء بل بالأتباع، وهؤلاء الأتباع يوليهم ويعزلهم ويتصرف بهم كما يشاء، وهم يخضعون لإرادته إذ لا يرون أنفسهم شركاء كما كان الأولون. فإن هذا الرأي يجد تأييده في الموروث الأدبي العربي
على الرغم من تأكيد القرآن صراحة وتلميحاً على قومية الله على العالم إلا أن كثيراً من الناس يجد صعوبة في تقبل هذه الفكرة والسبب أنه يرى أن العالم يسير بموجب قوانين تخضع لها طبائع الأشياء فيرى أن الله تعالى “اودع القوانين” في العالم وجعل الطبائع في ذات الأشياء وهكذا فالقوانين والطبائع تفعل فعلها دون تدخل إلهي مباشر.
وبعض الناس يقول كيف لله أن يتدخل في كل صغيرة وكبيرة في هذا الكون. كيف يمكن للخالق أن يتابع كل هذه التفاصيل ويلاحق فيروسات أو بكتيريا تصيب إنساناً ويمنعها أن تصيب آخر؟ لذلك يُنكر هؤلاء الناس قومية الله على العالم في حقيقتها التفصيلية ويجعلون له أنداداً هي القوانين الطبيعية والطبائع. ولم أجد لدى هؤلاء تفسيراً لدور الله في العالم.
ومن أسباب ذلك التصور الذي ينفي تدخلاً مباشرا لله في العالم أنه يتصورون الإله كائناً محدود القدرة أو أنه يتدخل على نحو إعجازي فقط فيعطل القوانين وقتما يشاء. يقولون هو أودع القوانين لتعمل على الطبائع وحينما يريد يوقف عمل القانون.
وكأن الله يسير العالم بالمعجزات وهذا خلاف العقيدة أساساً. فقد خلق الله العالم بالحق ويسيره بالحق. والحق هو القانون. ولكن القانون إذ يعمل فإن له نتائج محتملة وليست حتمية وقطعية. فإن كانت كذلك فمن الذي يختار من بين الاحتمالات؟ من الذي يقرر تغليب احتمال ضعيف على احتمال آخر قوي ألا أن يكون قوة عظمى خارج القانون نفسه؟
وبعض الناس يريد تنزيه الله عن إيقاع الظلم أو الشر فينفي أن يكون المرض يقع بأمر الله، لأن الله رحمن رحيم لا ينبغي أن يكون صانعاً للشر فينفي تدخل الله في تفاصيل العالم. وبعضهم ينفي أن يكون الله متدخلاً في سير العالم لأنه يجد أن هذا معناه أن الخلق مسيرون لا مخيرون. وبكونهم مسيرون فإنهم لا يملكون إرادة حرة وبالتالي فإنهم غير ملومين على ما يقترفونه من أعمال شر أو مخالفات شرعية. وهذا ما يتنافى مع ما قرره الله في القرآن من مسؤولية الإنسان عمًا يفعله.
إن فرضية الخلق المتجدد تفسر آلية تطور العالم وتفسر آلية الصلة الدائمة بين الله والعالم وبدونها لا أفهم كيف يمكن أن تؤثر الإرادة الإلهية والفعل الإلهي في العالم. وحتى لو نفينا ضرورة وجود الإله الخالق والمجدد الذي يخلق ما يشاء ويختار فإننا سنبقى أمام معضلة فهم تطور العالم عبر آليات الطبع والطبيعة لأننا لا نعرف من الذي أوجد قوانين الطبيعة ولماذا كان عليها أن تعمل بهذه الصيغة.
ولما كان هذا النظام قائمًا على قانون السببية أو القوانين الطبيعية فإن إبطال الأسباب وإنكار الطبائع قتل لهذا النظام، وتجهيل له، وقلب للنظام العلمي فيه، يقول ابن رشد: (..وأن المعرفة بتلك المسببات لا تكون على التمام إلا بمعرفة أسبابها، فرفع هذه الأشياء هو مبطل للعلم ورفع له، فإنه يلزم أن لا يكون ههنا شيء معلوم أصلاً) ويشرح ابن رشد قوله السابق ويقول: (..والعقل ليس هو شيء أكثر من إدراكه الموجودات بأسباب وبه يفترق عن سائر القوى المدركة فمن دفع الأسباب فقد رفع العقل)
ويحكم ابن رشد على من أنكر الأسباب والطبائع بأنه ألغى الفوارق بين الأشياء وجعلها شيئًا واحدًا ومن ثم لا حدود ولا فواصل بين الأشياء وكفى بهذا إبطالاً للوجود وللعلم يقول: (..فماذا يقولون في الأسباب الذاتية التي لا يفهم الموجودات إلا بفهمها، فإنه من المعروف بنفسه أن للأشياء ذوات وصفات هي التي اقتضت الأفعال الخاصة بوجود موجود وهي التي من قبلها اختلفت ذوات الأشياء وأسماؤها وحدودها فلو لم تكن لوجود موجود فعل يخصه، لم يكن له طبيعة تخصه، ولو لم تكن له طبيعة تخصه لما كان له اسم يخصه ولا حد وكانت الأشياء كلها شيئًا واحدًا، ولا شيئًا واحدًا…
ارتفعت طبيعة الموجود، إذا ارتفعت طبيعة الموجود لزم العدم) وفي هذا الكلام رد على الأشعرية القائلين بأن لا طبائع ولا أسباب بل يذكر بعضهم أن أهل السنة مجمعون على تضليل من قال أن الموجودات تختلف بالطبائع
لم يدرس أحد القانون في عصر النهضة الأوروبي على هذا النحو الدقيق والمدهش في وضوحه وجرأته ونفاذ بصيرته سوى مونتسكيو، فقد شرح في كتابه «روح الشرائع» نظم الحكم المعروفة، وانتقدها مفرقًا بين أنواعها: المَلَكيَّة وفيها يرث الحاكم السلطة ممن يسبقه؛ والديكتاتورية وفيها يرجع الحكم للحاكم وحده دون حدود قانونية، ودائمًا ما يُثبِّت أركان حكمه بإرهاب المواطنين المدنيين؛ وثالث هذه الأنظمة الجمهورية وهو نظام يحكم فيه الشعب من خلال ممثلين يختارهم وفق آلية تضمن قدرته على عزلهم وحسابهم، والجمهورية هو نظام الحكم الأمثل من وجهة نظر مونتسكيو.
ذلك أن أي نظام للحكم ينبغي أن يسعى لضمان حرية الإنسان، ومن أجل ذلك يجب الفصل بين السلطات الثلاث: التنفيذية، والتشريعية، والقضائية، وأيضًا الحفاظ على التوازن بينها. ويعيد مونتسكيو في كتابه تعريف الفضيلة والشرف، إذ يضع هذه المعاني في إطار الجمهورية ويرهن معناها بالسياسة. «الفضيلة» عنده في الجمهورية تعني حب الوطن، أي حب المساواة؛ إنها ليست فضيلة خلقية، بل سياسية. ولم ينقطع أحد من هؤلاء، شخصًا طبيعيًا كان أو اعتباريا، جماعةً أو حزبًا أو حكومةً أو دولةً، عن استيجاد المبررات والذرائع لتبرير مفارقة العدل والإنصاف، وإساغة التحيف والجور على حقوق الآخرين.. لا يقدم الأقوياء أسبابًا مفهومة ناهيك بالمقنعة لاعتراضهم على ما يجب للضعيف من إنصاف، ولا مبررًا لاصطناعهم الوسائل لتقليم وتعجيز فرصته في مواجهة القوى، ولا يكفون عن مصادرة أي مقاومة للرضوخ أو الانحناء !
لا يخجل الأقوياء من تبرير تحيفهم بأنه قانون القوة والاقتدار، وأن من حق القوى الانتفاع بقوته واغتنام الفرص بقدرته، وعلى الضعيف أن يدفع ثمن عجزه وخوره.. فالمال كالحق ـ لا بد له في نظرهم من قوة تقره وتحميه.. والمساواة ـ هكذا يبررون ! ـ قضية نظرية تركن إليها الكثرة الخاملة العازفة عن بذل الجهد والمناضلة واتخاذ الأسباب.. القاعدة عن بذل ما يبوئها الجدارة والاستحقاق، بينما العدل ـ هكذا يرى المتحيفون ! ـ
لا يكون إلاّ بحسب المواهب والقدرات، فيكون المال في يد من يقوى على الانتفاع به في أغراضه، لا في يد الغافل أو السفيه أو الأحمق أو العديم الخبرة.. والعدل والمنطق أن تؤول غلته أو معظمها لمن يحسن استغلاله لا لمن لا يفكر في استغلاله أو لا يحسنه.. هذا الاستدلال سمعناه من فريق من مستأجري الأراضي الزراعية يطالبون بملكيتها قانونًا لزارعيها وليس لسواهم بمقولة إن «الأرض لمن يزرعها فعلا».
. معنى ملكيتها ينحصر عندهم في زراعتها التي هي شاهد ملكيتها.. وهذه مغالطة تردنا إلى ما قبل التاريخ وقبل وجود الملكية الفردية!.. فالمالك في زماننا غير المالك بالماضي السحيق، والأرض في عالم اليوم كغيرها من عناصر الملك، قد يزرعها المالك بنفسه، وقد يزرعها بأجراء.. وقد يعتل فيؤجرها لمن يزرعها، وقد يموت فلا يترك إلا نساءً، وقد يترك ذكرًا بالغًا لا يمارس الزراعة.. فمباشرة المالك للزراعة بنفسه وجه واحد فقط من الوجوه العديدة التي من حقه أن يستخدمها أو يستعملها لانتفاعه بأرضه !
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان