ان من أهم الاختراقات التي تَنخَر في التدين الفردي في المجتمع المسلم ما يمكن تسميتُه موسميةَ المعاني الدينية، أو التدين الموسمي الذي يراعي فترة زمنية يتفاعل معها، ووقتًا آنيًّا يتجرد فيه لعبادة أو شعيرةٍ معيَّنة؛ مما يجعل هذه العباداتِ تتعلق بشكل كبير بالمواسم والأحداث المختلفة، بعيدًا عن المعاني السامية لهذه الأحداث أو الوقائع، فيسير الإنسان في عبادات قد تم تجريدها عن الروح الفاعلة التي يجب أن تسري في المجتمع والأمة، وتقوم بصياغة التصور الفردي للحياة والكون وعلاقته بكل ما حوله،
فَتُجَرَّد هذه العبادات من الرابط الأساسي الذي يجب تحقيقه، من تعميق المعاني السامية على أساس تكامل وترابط يقرع النفس والروح، ويُعَمِّق فيها المفاهيم الإيمانية المختلفة، التي لا تخرج عن إطار الواقع أو تبتعد عنه،
بل هي إحدى الدعائم التي ترسم الواقع والمفاهيم المرتبطة به، ويمكننا ملاحظة ذلك من خلال التعلق ببعض المناسبات التي صارت عند بعض الفئات ضرورة لا بد منها، وحاجة لا بد من القيام بها، بل ويقاس مدى التدين الفردي من خلالها، بعيدًا عما ترمز له هذه العبادات والمُثُل التي تحاول غرسها في البنية المجتمعية؛ ولم تظهر المشكلة في الفرد المسلم أو المجتمع الإسلامي إلا حين تم الانفصال بين هذين العنصرين، – طبعا بنسب متفاوتة -، حين أهملت الحقوق، وتعطلت الذمم، وأعدمت الإنسانية، واختلط الحابل بالنابل، ولنا في رسول الله مثل يحتذى به حين قال: “إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ”
إن هذا الواقع يجعل من أهم الواجبات التي ينبغي الحرص عليها في هذه المرحلة العملَ على البحث عن الدلالات والعِبَر في العبادات المختلفة، ومحاولة ترسيخ أهم الأحداث والمواقف التي يتميز بها تاريخنا الديني؛ حتى يتمثَّلَ الفردُ القِيَم التي تشير إليها العبادات والشعائر والمناسبات؛ حتى لا تكون العبادات التي يقوم بها الفرد جوفاءَ عن الروح المُحَرِّكة لها، والأسرار المراد ترسيخها،
فتنقلب تصورات الإنسان الدينية إلى مجرد عادات تمر عبر العام، يكررها تباعًا، و(روتين) يقوم به، ويحاول الاستمرار في تَكرار هذه الحركات الظاهرة، دون أن ترسم أيَّ تأثير على المستوى الداخلي في الفرد، في شعوره ووجدانه، في مخيلته المفكرة، فتصير هذه الشعائر والتدين – إن صح التعبير، بشكل عام – والأحداثُ الدينية المرتبطة مثلَ الأصنام التي يدور في فَلَكِها الفرد، ويحاول الارتماء في سبيلها،
ويغض الطرف عن المقاصد الباطنية والحقائق الكامنة، فيبتعد بعيدًا، ولا يصيب الهدف، ويفقد عامل التوازن والتكامل المتحقق من مراعاة هذه المفاهيم، فيقع فيما فر منه، ويصير دورانه في حلقة مفرغة؛ مما يؤثِّر على المستوى الفردي، وينعكس بذلك على المستوى المجتمعي، وواقعنا اليوم خير دليل على عدم الاتزان في هذا المقام،
ما يجعلنا نتحدث عن هذا الموضوع هو المحاولات التي تحاول جعل الدين عبارة عن شعارات موسمية وطقوس ترتبط بأحداث معينة؛ كالمولد النبوي، أو الهجرة، وغيرها من المناسبات، دون التمعن في العِبَر المُسْتَقَاة،
ومحاولة صبغ هذه المفاهيم على الواقع المعيش؛ بحيث تكون هذه الأحداث حاضرة في واقع الأمة حقيقة، لا حضورًا رمزيًّا يُسْتَدعى في أيام محددة وأوقات معلومة في شكل طقوس معينة، وبعد ذلك يتم نسيان هذه المعاني بمجرد الانتهاء من ممارسة هذه الطقوس،
فنكون أمام عبادة لأيام – إن جاز التعبير – وظواهر تخلو من المقاصد التي تحققها. نحن بأمَسِّ الحاجة إلى مراجعات تعيدنا إلى الواجهة من جديد، وتزيد من الفهم الصحيح لمعاني التدين.
أما المنافق فهو مفسد ظالم أثيم، وصفه القرآن بأخبث الأوصاف (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) وهذا يعم المسلمين وغيرهم ممن لم ينتفع بنسكه، سيرته بين الناس الفساد والإفساد، وقد عبر بقوله (سعى) ليشمل جميع حركاته وسكناته من أجل الإفساد، وسفك الدماء وقطع الأرحام من أكبر الإفساد لأنه يناقض الغاية الكبرى من الخلق وهي عمارة الأرض.
يظهر لنا مما تقدم وجود رابط قوي بين الإيمان القلبي المتمثل في التقوى، وأخلاق المسلم بينه وبين بني البشر التي تمثل ثمرة إيمانه الحقيقي، ويرد هذا دعوى التفرقة بين هذين العنصرين، لأنها تحدث فجوة دينية في الفرد والمجتمع، وبالتالي يكون سببا لتدهور نسبة التدين في المجتمع، ونفقد حينها حقيقة التقوى التي هي غاية العبادات والطاعات، وبالتالي نفقد على وجه الأرض العدل والرحمة والخير لان الإسلام عدل كله، رجمة كله، حكمة كله، مصلحة كله؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى البعث؛ فليست من الشريعة.
إن من الفكر السائد في المجتمع الإسلامي اليوم استعمال مصطلح “الالتزام الديني” أو ما يسمى “بالتدين” على بعض الواجبات العينية التي يقوم بها الفرد بوصفه مسلما، مثل إقامة الصلاة وأداء الزكاة، وكثرة التردد على المساجد، والتحلي بالأخلاق الفاضلة، والاحتراز عن مساوئ الأخلاق، وحضور جلسات الذكر والعلم، ونحو ذلك، مع أن مصلحتها قاصرة على الفرد نفسه، وأثرها شخصي وهو إصلاح علاقته بربه،
ويتغاضى الزخم الكبير من العامة بهذا الحصر للمفهوم عن واجبات كفائية مع كونها هي أعمق معنى وأثرا من الواجبات العينية، لأن خطابها موجه لجميع أفراد المجتمع، ومصلحتها من حيث الأثر أوضح، فإن القيام بها يسقط الحرج عن عامة الأمة، والعمل المتعدي أفضل من القاصر، بل لا تستقر أحوال العامة إلا بها، مثل تجهيز الميت، وطلب العلوم وتحصيلها بشتى تخصصاتها، وإغاثة المستضعفين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورئاسة الدولة وتعيينها، والجهاد، ومقاومة الغزو الفكري والإعلامي ونحو ذلك مما يدخل عند الأصوليين تحت الواجبات الكفائية.
ولعل من أسباب حصر هذا المعنى من الأمة ما ذكره د. المصطفي تودي ، من سوء فهم الأمة لواجباتها الكفائية، وإشكالية التسمية عند العلماء الأصوليين، إهمال العمل الحركي والدعوي للواجب الكفائي، وتداخل مسؤولية الدولة والأمة في القيام بالواجب الكفائي، وأضيف ها هنا مشكلة ضعف الوازع الديني الشريعة لم تفرق بين الواجبات الكفائية والعينية من حيث الالتزام بهما، لأن المخاطب في كلا النوعين هو المسلم المكلف ابتداء، ويقع أداؤهما منه على وجه الإلزام والتحتم
إن الخطاب الديني والالتزام به يلزم الفرد والمجتمع على حد سواء، فإن الشرع يخاطب الفرد بشكل خصوصي ويعالج حاجات المجتمع بطريق واسعة النطاق، للعلاقة بين الفرد والمجتمع، فالمرء ابن بيئته، ولا يتوقع أن يستقيم تدين الفرد بدون مجتمعه، لذلك تنوع الخطاب الديني بين هذا وذاك، تارة باعتبار الفرد مسلما مكلفا،
وباعتباره واحدا من المجتمع تارة أخرى، وتدين الفرد باعتبار الأول هو تدين فردي أو شخصي، وباعتباره الآخر فهو تدين مجتمعي تضامني. وأما متعلق الفعل من حيث الأداء، فإن الواجب العيني يسقط الطلب به بمجرد حصول الفعل من المكلف، لأن الخطاب الشرعي فيه متعلق بالفاعل نفسه وهو الفرد المسلم، وإذا أدى الصلاة المفروضة مثلا فإنه شرعا تسقط المطالبة بها بأدائها، وثبرأ بذلك ذمته،
وأما الواجب الكفائي فإنه يتعلق بحصول المصلحة من الفعل ذاته دون النظر إلى عدد القائمين به، ومتى تحققت المصلحة التي أرادها الشرع منه على الوجه الصحيح ارتفع الطلب سواء قام به فرد أو الجماعة بأكملها، ولو قام الفرد أو الجماعة بالفعل المأمور به كفائيا، ولم تتحقق منه مصلحته، فإن ذمة أفراد المكلفين تبقى مشغولة حتى يقع الفعل مطابقا لمصلحته، لأن التكليف فيه عام، وهو بهذا الاعتبار فرض عين على الأمة كما عبر عنه الشاطبي في “الموافقات”.
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان