تعاني البشرية مِن موجات الخوف والجوع ونقص في الثمرات والأنفس بسبب الصراعات الدامية التي تغطي رقعة الكرة الأرضية، الأمر الذي يدفع بالقائمين على شؤون الناس من حكومات وأجهزة أمنية ومؤسسات المجتمع المدني إلى التفكير بصورة جدية لإعادة صياغة الأمن بكافة أبعاده والعمل بحماس لوضع منظومة للأمن الاجتماعي يكفل كل الجوانب الأمنية التي يحتاجها الفرد في مجتمعه. أمنه على نفسه من الأخطار المحدقة به..
وأمنه على ماله من اللصوص وشركات السطو والاحتكار، وأمنه على عائلته وأبنائه وبناته مِن الثقافات المستوردة والمعلبة بأشكال مغرية.
وأمنه الغذائي، بمواجهة عوامل التخريب الاقتصادي ومكافحة البطالة المستشرية. هكذا أصبح الأمن الاجتماعي الهاجس الأكبر في حياة كل فرد يعيش في المجتمعات البشرية سواء كانت المجتمعات المتطورة اقتصاديا، أو المجتمعات المتخلفة، فالحاجة إلى الأمن بمفهومه الأوسع يشمل جميع بني البشر الذين يعانون من المخاوف المتعددة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والخوف من المستقبل أيضا.
وقد قامت المجتمعات ممثلة بالسلطات السياسية والاجتماعية والدينية بوضع جملة إجراءات وبرامج وخطط سياسية واجتماعية وثقافية تستهدف توفير الأمن الشامل الذي يحيط بالفرد والمجتمع.
وليست هذهِ الإجراءات والخطط سوى جزء مِن الأمن الاجتماعي حيث لابد من تحقيق أقصى تنمية لقدرات الإنسان في المجتمع لتحقيق أقصى قدر مِن الرفاهية في إطار مِن الحريات السياسية والعدالة الاجتماعية.
هذا بالضبط ما نقصده بالأمن الاجتماعي، فهو من جانب خطط وإجراءات تضعها السلطات السياسية والاجتماعية والاقتصادية إضافة إلى انّ تفجير الطاقات المخبئة في داخل الإنسان للحصول على أكبر قدر من الناتج الذي ينعكس بدوره على رفاهية المجتمع واستقراره.
المجتمعات التي تعيش أمناً حقيقياً هي مجتمعات ناضجة وقادرة على تخطي الصعوبات التي تواجه التنمية والتطور، وأن تصل برحلتها المتواصلة نحو التحول إلى المشاركة الحقيقية في صنع التاريخ الحضاري للبشرية، ويبقى الأمن هو الحاضن الأكبر لنجاح كل جهود تقوم بها الدول من أجل الارتقاء والتطور.. وهناك العديد من مفاهيم الأمن،
فهناك الأمن السياسي، والأمن الاقتصادي، والأمن الصحي، والأمن المالي، والأمن الغذائي، إلى آخر تلك الأنواع والتي حين تتحقق معاً، يتحقق الأمن الاجتماعي للفرد. في كثير من الأحيان يختلط المفهوم بين الأمن والأمان، فالأمن هو التخلص من المخاطر التي تهدد السلامة العامة. ويعتبر الأمن مسؤولية اجتماعية تقتضي المحافظة على سلامة أفراد المجتمع وقدرة أفراد المجتمع على حماية أنفسهم وغيرهم، مما يوفر لهم بيئة مجتمعية مستقرة، تبني علاقات متماسكة داخل نسيج اجتماعي واحد.
أما الأمان، فهو عبارة عن الشعور الداخلي بالراحة والاطمئنان بين أفراد المجتمع، مما يشكل مجتمعاً قادراً على العطاء والقيام بكافة أشكال الأنشطة الحياتية اليومية، بمعزل عن الفساد والخوف والقلق، ولكي نحقق درجات عالية من الأمن الاجتماعي، علينا بالتعايش السلمي بين كافة مكونات المجتمع، وقبول الآخر واحترام مكوناته الفكرية والعقائدية، مما يؤكد على تحقيق الشعور بالأمن والأمان معاً.
الاطمئنان وعدم الخوف والاستقرار في نواحي الحياة وأساسياتها من صحة واقتصاد وغيرها، من عناصر الأمن الاجتماعي، هي حجر الزاوية في نجاح التنمية الشاملة للمجتمعات. فالأمن الاجتماعي يحقق تنظيم الحياة الاجتماعية للأفراد والمجتمعات، ونشر العدل والمساواة بين أفراد المجتمع، وتوطيد أواصر الترابط الاجتماعي، وتعميق حب الانتماء للوطن والهوية الوطنية، وكلما كانت الدول تعمل على تطبيق القوانين التي تحمي الأفراد والمجتمعات على أرض الواقع، وتحقيق جوانب الأمن الاجتماعي الأخرى، كالأمن الاقتصادي والصحي وغيرها،
سنكون حققنا الهدف الرئيسي للأمن الاجتماعي، الذي نصبو له، وهو استقرار المجتمع وزيادة قدرته على تقديم الخدمات لأفراده وتحسين مستويات معيشتهم، مما يوضح مدى أهميه الأمن الاجتماعي في بناء مجتمع متطور ومتكامل،
فينعكس على تحقيق أمن سياسي قوي يقود الدولة إلى مكانة دولية كبيرة من خلال اقتصاد مؤثر، وقوة مجتمعية، واستقرار يؤدي إلى مشاركة الحضارة المصرية الحديثة في التطور التكنولوجي والمعرفي للحضارة البشرية
نحن اليوم، نعيش عالماً متشابكاً عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي تقوم بدور كبير في الحراك الفكري للأفراد والمجتمعات، قد تنعكس بالسلب أحياناً على المجتمع، بتمزيق النسيج المجتمعي، والإصابة بتغيرات صعب علاجها، ما لم ندركها في الوقت المناسب. فعندما يتفشى الفكر السلبي، يصبح من الصعب جداً إعادة العقل إلى الصواب.
ولأن مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت واحدة من أهم وسائل الإعلام، كان لابد من الانتباه لنظرية حارس البوابة، حيث يرى عالم النفس النمساوي «كيرت ليوين» أن الرسالة الإعلامية في رحلتها من المصدر،
حتى تصل إلى الجمهور المستهدف، تمر ببوابات الحراسة، يتم قبلها اتخاذ قرارات ما إذا كانت الرسالة سوف تنتقل بالشكل والمحتوى نفسه، أو إدخال تعديلات. فحارس البوابة هو الذي يحدد نوعية الرسالة وهدفها وقوة تأثيرها على المجتمع، وهنا حارس البوابة يمثل الجهة الإعلامية التي تعمل على نشر الخبر والمعرفة للمجتمع.
ونحن مع شبكات التواصل الاجتماعي، أمام إعلام جديد من دون قيود أو حواجز، يلغي السيطرة ويجعل القائم بالاتصال هو الذي يقرر اتجاه وهدف الرسالة، فهو ينقل رسالته الإعلامية، ويبث من خلالها ما يريد تحقيقه، فأصبحت المجتمعات مخاطبة بشكل مباشر، وكل صاحب صوت مؤثر عبر شبكات التواصل الاجتماعي، أصبح حارساً للبوابة، والسؤال يفرض نفسه: هل نضمن أمانة كل حراس البوابات؟
وهنا يبدأ الأمن الاجتماعي في الدخول في حالة من الفوضى الفكرية والإخبارية والإعلامية، ولكي نحافظ على الأمن المجتمعي لابد من توفير بيئة مجتمعية واعية قادرة على إدراك المخاطر التي من الممكن أن تؤدي إلى شرخ في النسيج المجتمعي.
فلابد من اتباع سبل وطرق وإجراءات للمحافظة على تماسك الأمن المجتمعي، لأنه هو ركيزته الأساسية لنحافظ على الأمن السياسي. ولن يكون ذلك إلا من خلال الحفاظ على الترابط والتماسك والوعي المجتمعي من الداخل، وعدم قبول اختراقه من خلال هذه الرسائل المحملة بكثير من الزيف، من خلال تقوية قدرة الأفراد، وخاصة الأطفال والشباب،
على التمييز ما بين الزيف والحقيقة، والعمل على تأسيس الأبناء على أسس نفسية ومجتمعية معرفية صلبة ترتبط بصورة وثيقة بهويتنا الثقافية والاجتماعية، لكي تستمر عمليه التنمية والتطور والإنتاج على جميع الصُّعد، لتحقيق الريادة الحضارية للمجتمع المصري ، ولنرتقي بمجتمعاتنا وأجيالنا القادمة.
ويأتي بعد ذلك دور الدولة فى تحقيق هذا الأمن فى شكله الثلاثى ، هذا الدور يتمثل فى أن على الدولة :
1 – أنْ تقوم بتوفير فرص العمل المناسبة لكل شخص بالأجر المناسب تحقيقاً لمبدأ التوازن بين الدخول وأسعار السلع ، لا سيما أنّ هذا العمل يمنع صاحبه من التسول والسرقة والسطو على الآخرين .. .. الخ ، فإنْ لم تستطع الدولة ذلك فعلى أغنياء المجتمع لا سيما رجال الأعمال أنْ يضطلعوا بهذا الدور تخفيفاً عن الدولة.
ومنْ ثمّ يقرر بعض العلماء المحدثين عن ذلك بقوله: " إنّ المجتمع مسئول عن توفير العمل المناسب لهذا الشخص إنْ كان متبطلا، والأجر المناسب إنْ كان عاملاً والضمانات إنْ عجز عن العمل ، أو أصيب فيه أو توفى وترك أولاداً كما قال ( أنا أولى بكل مسلم من نفسه من ترك مالا فلأهله ، ومن ترك دينا أو ضياعا – يعنى أولاداً ضائعين لصغرهم – فإلىّ وعلىّ فهذا ضمان اجتماعى ، ومنْ ثمّ يقول سيدنا أبو ذر : ( عجبت لمن لا يجد القوت فى بيته كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه) ،
وكان الإمام محمد بن الحسن الشيبانى صاحب أبى حنيفة : كان فى درس مع طلابه وتلاميذه . وجاءته جارية وقالت له : سيدتى تقول لك لقد فنى الدقيق فقال لها : قاتلك الله لقد أضعت من رأسي أربعين مسألة كنت أعددتها للمدارسة مع الطلاب ) فهذا يدل على أنّ الإنسان بطبيعته لا بد أنْ يطمئن على رزقه ،
ومنْ ثمّ فإنّ المجتمع عليه أيضاً مسئولية مساعدة كل واحد أنْ يعمل وهذه مسئولية فرضها الإسلام: ( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته . فالأمير الذى على الناس راع ومسئول عنهم ) ، وبالتالى فإنّ الإمام الذى ولاه الله المسئولية على الناس يجب عليه ذلك ، بحيث يوفر لهم بأجهزة الدولة الموجودة ما ينبغى له من أمور المعيشة كل حسب ما يستطيعه ” .
هذا إذا كان قادراً على العمل ، أما إذا كان غير قادر عليه بأنْ كان عاجزاً أياً كان نوع العجز لدى الشخص طالما أنه يمنعه عن العمل، فحينئذ تكفل الدولة والقادرين فيها حاجات هذا الشخص ومَنْ يعول حتى يتحقق الأمن الاجتماعى بالنسبة له ،
وذلك من خلال طرق أخرى كالتضامن الاجتماعى عن طريق ميزانية الدولة المخصصة لذلك، أوعن طريق الزكاة والصدقات .. الخ وكما سيأتى فى هذا افرع والفروع القادمة .
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان