الابتهالات الدينية ذاك فن رفيع غفلنا عنه كثيرا رغم قوة تاثيرة وحلاوته وطلاوته وقدرته على الارتقاء والسمو بالوجدان والمشاعر على الاقل في مواجهة موجات الهشك بشك اوالهنك والرنك كما يقولون.الا انه مما يؤسف له ان المدرسة المصرية على هذا الصعيد قد اصابها ما اصابها وتراجعت كثيرا الى الخلف.
الموقف الذي اتخذته نقابة المهن الموسيقية وانتصارها لشيخ شيوخ المبتهلين والمنشدين الشيخ سيد النقشبندي موقف يستحق التحية والتقدير لاسباب كثيرة منها انه جاء سريعا وفورا عقب واقعة احد مقتحمي عالم الفن وتجاوزه لحدوده الفنية والاخلاقية وتطاوله على رمز من الرموز في فن مهم وعزيز على نفس وقلب كل مصري وعربي.لم تتنظر المهن الموسيقية هذه المرة وقطعت الطريق على من يستغل الواقعة ويتاجر بها ويتخذها مدخلا ومتكئا للعب والاثارة وتسخين الارض واشعال نيران فتنة ربما لم تعد كامنة او خامدة فالجذوة تحت النيران على اهبة الاشتعال.
موقف المهن الموسيقية رسالة مهمة في وقت حساس كثر فيه الهاموش والمتطفلين على عالم الفن والمقتحمين لاسواره وابوابه التى اصبحت مستباحة لكل من هب ودب يعبث فيه كيفما وانى شاء وكم من مقتحمين فوجئنا بهم بين ليلة وضحاها ويسمونهم نجوما وتقام لهم الحفلات الصاخبة وربما الماجنة ويتهافت عليها المتهافتون من شباب وغيرهم ويلقون اذانا مما هو اسوأ من الطين دون اعتبار لسخط الساخطين ولصراخ المستغيثين وانات المتوجعين من انهيار منظومة القيم والاخلاق..
المدهش انه في كل مرة ومع انفجار حالات العدوان على الفن والاخلاق نكتشف ان مرتكبي الجريمة ادعياء ودخلاء على المهنة وانهم اما بلا تراخيص وغير مسموح لهم بممارسة المهنة او انهم متحايلون مخادعون للنفاذ من الرقابة والحصول على تصريح لمدة حفلة واحدة او حتى مؤقت واعتقد ان هذه اشارة قوية لواحدة من بوابات الفساد والاختراق والاحتيال للضحك على الدقون وتلبيس اللبدة التمام في دماغ السيد الزبون سواء المسكين او المتطاول بماله من المبذرين من فصيلة اخوان الشياطين.
قرار نقابة المهن الموسيقية بمنع التعامل مع المؤدي مروان بابلو باعتباره أحد مؤدي الراب يكشف جانبا مهما من اللعبة اذ اعترفت في بيانها وتبريرها للمنع بأنه ليس عضوا بالنقابة وكان يحصل على تصريح اليوم الواحد وأخطرت كافة الجهات والهيئات والمتعهدين بالقرار.
الجميل في موقف المهن الموسيقية تأكيدها الدفاع عن قيم المجتمع واحترامها لمشاعر الناس فلم يكن سبب المنع انه لا يحمل ترخيصا ولكن لأنه تناول في إحدى حفلاته ابتهالا دينيا.. ثابت ويحمل معاني روحانية وقيما سامية لدى المصريين واستهان بهذا الدعاء بابتذال وأفرغه من محتواه الأخلاقي فضلا عن تناول الفيديو ألفاظا خرجت عن كل الأخلاق والتقاليد الحميدة الأمر الذي أصاب المصريين بخيبة أمل”كما جاء في نص البيان.
ولو ان كل جهة مسئولة بادرت او سارعت الى اتخاذ موقف جاد من الهاموش الذي يملأ الساحة الان على صعيد الفكر الدينى او من يدعون انهم حملة الوية التنوير وهم في الحقيقة معاول هدم مستترة خلف الراية لاسترحنا كثيرا من هموم وخزعبلات وجدل سوفسطائي لايسمن ولايغنى من جوع يقوده الدخلاء والمتنطعون والمتعالمون والمتفيقهون والحاقدون وكثير من الحمقى والمغفلين وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا وهم يدركون ا لا يدركون انهم من الذين حبطت اعمالهم وتنتظرهم مردة جهنم.
ما حدث يلفت الانظار وينبه الى قضية مهمة نسيناها اونتعامل معها بجفاء وعدم اكتراث رغم اهميتها وقوة تأثيرها في الوجدان واثارة العواطف الدينية والوطنية وهي قضية الابتهالات الدنيية وهي فن عال رفيع القيمة له جماهيريته وشعبيته الطاغية واحد روافد القوة الناعمة لمصر وهذي حقيقة لا يمكن ان ينكرها احد والتراث الذي تركه المبدعون الكبار اصحاب الاسماء الرنانة حتى الان خير شاهد من امثال النقشبندي والفشني وعلى طه وطوبار ومن قبل ابوالعلا محمد وسلامة حجازي وسيد متولى والهلباوي وحتى اسماء الجيل المعاصر مثل البساتينى والكحلاوي وسامي يوسف الانجليزي المسلم وهو حالة مبدعة قفز بالانشاد الدينى قفزة رائعة حتى اصبح قاعدة للدعوة الى الله في الغرب وبين المسلمين الجدد.
وليس من قبيل المبالغة القول بان معظم ان لم يكن كل الاعمال في هذا الفن الجميل الذي يخاطب انسانية الانسان ووجدانه الايمانى والديني لا تزال خالدة على مر الزمان فهي لاتقدم ولا تبلى ولا تتأثر بتغير الاذواق اوالمستمعين فن يحظى باجماع وثقة المستمعين على اختلاف جنسياتهم والوانهم واطيافهم الثقافية والدينية ايضا وهو مطلوب دائما وفي كل وقت ولم تفلح اي محاولة لاهالة التراب عليه اواستبداله باي فن اخر او تقليصه وحبسه في الادراج والافراج عن فتات الفتات في مناسبات معينة خاصة ماتركه عباقرة المبتهلين الذين لا تزال اصواتهم علامات مسجلة عندما تسمعها يهل عليك عبق التاريخ وروحانيات خاصة مفعمة بالحب والشجن نحو العبادات والفروض الدينية المختلفة من صوم وحج وصلاة وغيرها.
الابتهالات الدينية ذاك فن رفيع غفلنا عنه كثيرا رغم قوة تاثيرة وحلاوته وطلاوته وقدرته على الارتقاء والسمو بالوجدان والمشاعر على الاقل في مواجهة موجات الهشك بشك اوالهنك والرنك كما يقولون.الا انه مما يؤسف له ان المدرسة المصرية على هذا الصعيد قد اصابها ما اصابها وتراجعت كثيرا الى الخلف فيما برزت مدارس لهذا الفن الراقي في الدول الاخرى وحقق قفزات هائلة واصبحت فرق تلك الدول موضع ترحيب شديد في المهرجانات الدولية وحتى في مصر ام الدينا مبتكرة ومؤسسة هذا الفن.السبب الرئيسي حالة الاهمال والتراخي وعدم السعي الى مأسسة هذا الفن العظيم وتركه عرضة للعواصف والانواء ولجهود فردية بحتة.والحقيقة ان كثيرا من ابناء الجيل القديم قد تنبهوا الى هذه المسالة وسعوا حثيثا الى انشاء مدرسة او معاهد للتدريب لكن دون جدوى.
اذكر انني زرت الراحل العظيم الشيخ محمد الطوخي احد كبار مبتهلينا العظام في بيته المقابل لمسجد السلطان ابو العلا في بولاق وكانت امنيته في حوار اجريته معه ان تكون هناك مدرسة خاصة بالانشاد والابتهال الديني وان يكون هناك معهد للتدريب وانه تحدث في الامر مع كبار المسئولين في الاوقاف وفي الاذاعة المصرية.
كل فن يحتاج الى حاضنة رسمية وشعبية تشجعه وتمنحة القوة والقدرة على الاستمرار وتحميه من اي محاولات للعدوان عليه او الانتقاص منه فالاهتمام وعمليات التشجيع من قبل المسئولين دائما ما يكون لها اثرها القوى والناجز في الانطلاق والابداع ايضا وما حكاية الرئيس السادات والشيخ النقشبندي ببعيد.
فقد كان السادات من محبي الابتهالات الدينية في كل المناسبات العامة والخاصة حتى انه دعا النقشبندي الى حفل خطبة ابنته وأثناء الحفل اعرب السادات لوجدي الحكيم رئيس الاذاعة عن رغبته في ان يسمع النقشبيني مبتهلا وبليغ حمدي ملحنا.ولما ابلغ الحكيم النقشبندى بالامر مع اول زيارة للاذاعة ابدى الشيخ في البداية امتعاضا وظل النقشبندي يردد:”على آخر الزمن يا وجدي يلحن لي بليغ” معتقدًا أن بليغ سيصنع له لحنًا راقصًا ولن يتناسب مع جلال الكلمات التي ينطق بها في الأدعية والابتهالات وكادت المهمة ان تفشل حتى اتفق الحكيم مع النقشبندي على الاستماع لبليغ وإذا لم يُعجب باللحن الذي سيصنعه يرفض الاستمرار.وبحسب رواية وجدي الحكيم فإن النقشبندي ظل طيلة الوقت ممتعضًا وبعد نصف ساعة من جلوسه مع بليغ في الاستوديو دخل الحكيم ليجد الشيخ يصفق قائلا:”بليغ ده عفريت من الجن”!
وكانت البداية هذا العمل العبقري الذي حاول تشويهه اللاعبون على حواف الفن والمسترزقون منه” مولاي انني ببابك” ولحن بليغ على الفور ستة من الابتهالات الاخرى الرائعة والتى الفها خصيصا للنقشبندي الشاعر الكبير عبدالفتاح مصطفى.
مَوّلاي إنّي ببابكَ قَد بَسطتُ يَدي..
مَن لي ألوذُ به إلاك يا سَندي؟
أقُومُ بالليّل والأسّحارُ سَاهيةٌ
أدّعُو وهَمّسُ دعائي.. بالدُموُع نَدى
بنُورِ وَجهِكَ إني عَائدٌ وجلُ..
ومن يعد بك لن يَشّقى إلى الأبدِ…
والله المستعان.
Megahedkh@hotmail.com