فى كل عام يأتينا شهر ربيع ليحيى فينا ذكرى مولد حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، يقولون إنها بدعة، فلتكن بدعة، ما أروعها بدعة، وليكن احتفالنا بها أروع احتفال، مع تغريدة شيخنا النقشبندى برائعته الخالدة: “وافى ربيع فمرحبا بهلاله..قد أقبل الإسعاد فى إقباله “، فنترنم بمناقب الحبيب المصطفى حتى نذوب فى المدى حين نصل معه ـ رحمه الله ـ إلى ذروة التجلى وهو يقول:” مافى البرية قط مثل محمد..فى حسن سيرته وسمح خصاله..أخلاقه غزت القلوب بلطفها..قبل استلال سيوفه ونباله “.
نعم ياسيدى وحبيبى وقرة عينى، ياصاحب الخلق العظيم، يا رحمة الله للعالمين، ماأحوجنا اليوم إلى أن نعلن للدنيا كلها ابتهاجنا بذكراك العطرة، وأنت لاتغيب عنا، ونحتفى بيوم مولدك، لعلنا نغيظ من يضمرون لنا ولك الكراهية، ليعلموا أنه كلما زادوك كيدا ومكرا وتشكيكا، زدناك ثقة ومحبة وتقديرا وإيمانا، وكلما جحدوا فضلك وتنكروا لرسالتك، فتحنا صفحات من سيرتك العطرة لنرى، ويروا معنا، ماحباك الله به من أعظم الشيم وأرفع الدرجات.
نعم ياسيدى، ما أحوجنا إلى أن نستذكر فى هذه المناسبة ما غفلنا عنه من سيرتك، وأنت قدوتنا، وما كانت سيرتك إلا نورا ساطعا، وسجلا حافلا لمكارم الأخلاق، وما كانت رسالتك فى جوهرها إلا رسالة القيم والخلق الرفيع، يا من أدبك ربك فأحسن تأديبك ؟
لقد لخصت السيدة خديجة رضى الله عنها أخلاقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى من قبل البعثة، عندما جاءها يرتجف مما حدث له فى الغار مع بداية لقائه بالوحى فقالت: “والله لايخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتغيث الملهوف، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق”، وتجمع كل المصادر على أن الصفة التى عرف بها الرسول الكريم بين قومه قبل البعثة هى ” الصادق الأمين “.
ولما أراد أبوذر أن يعرف شيئا عن هذا النبى الذى يزعم أنه يأتيه الوحى من السماء، أرسل أخاه إلى مكة ليسمع منه ويأتيه بالخبر اليقين، فذهب أخوه إلى مكة وسمع ورجع يقول: ” يا أبا ذر رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، ويقول كلاما ليس من الشعر”.
ولما سأل هرقل أبا سفيان ـ وهو على الكفر ـ عن الحبيب المصطفى ضمن ما سأل: هل كنتم تتهمونه بالكذب؟ قال : لا ، قال : فهل يغدر؟ قال لا ، قال فبماذا يأمركم ؟ قال : يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة، فقال هرقل: ” إن رجلا لم يكن ليذر الكذب على الناس ثم يكذب على الله “.
وجاء القرآن الكريم ليخبرنا عن أخلاقه صلى الله عليه وسلم فى قول الله تعالى: ” لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ماعنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم “، وقوله : ” وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”، وقوله : ” فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك “، وقوله : ” وإنك لعلى خلق عظيم “.
وتمثلت فى أخلاقه صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة لأمته، فكان أعظم الناس أمانة، وأصدقهم حديثا، وأجودهم طبعا، وأسخاهم عطاء، وأشدهم احتمالا، وأرفعهم عفوا ومغفرة وتسامحا، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، وكان يقول عن نفسه: ” إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق “، ويقول: ” أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا “، ويقول:” إن من أحبكم إلى وأقربكم منى مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون “.
وقد وسع صلى الله عليه وسلم الناس جميعا بخلقه وحلمه، الكبير والصغير، الغنى والفقير، وكان يقول لأصحابه: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق “، ويقول: ” إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم “، و” مامن شيء أثقل فى ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق”.
وأشهر ما أثر عنه أنه كان دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ ولا فحاش، ولا عياب ولا مداح، لايستقصى عورة أحد، ولا يذم أحدا، ولا يعايره، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، وكان حليما صبورا مترفقا بالناس، وما انتقم لنفسه قط ، وكان فوق ذلك سيد المتواضعين، وأبعد الناس عن الكبر، وكان يقول: لاتطرونى كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله، آكل كما يأكل الناس، وأجلس كما يجلس العبد”، وعندما وقف أمامه رجل يرتعد من مهابته هدأ من روعه قائلا:” هون عليك، فإنى لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد فى مكة “.
وعندما سئلت السيدة عائشة عن خلقه قالت:” كان خلقه القرآن “، وقالت:” ما ضرب رسول الله خادما له، ولا امرأة ، ولا ضرب بيده شيئا قط إلا أن يجاهد فى سبيل الله “، ووصفته السيدة صفية بنت حيى فقالت:” مارأيت أحسن خلقا من رسول الله “، وقال خادمه أنس: “خدمت النبى عشر سنين، ووالله ماقال لى أف قط، ولا قال لشيء فعلته لم فعلته، ولا لشيء تركته لم تركته”.
ورغم كل هذا الزخم كان صلى الله عليه وسلم يدعو الله أن يحسن أخلاقه، ويتعوذ من سوء الأخلاق، وتسمعه عائشة وهو يقول: ” اللهم كما أحسنت خلقى فأحسن خلقى”، ويخبرنا أبو هريرة أنه كان يدعو ويقول: ” اللهم إنى أعوذ بك من النفاق والشقاق وسوء الأخلاق”.